اليوم، وفي ظل ما يحدث على أرض فلسطين التاريخية، يملؤنا الأملُ بأنها الذكرى الأخيرة. وأنهُ في العامِ القادم، سنكتب عن النكبة بشكل مختلف تمامًا.
في حديثٍ مع أحد الأصدقاء حول ما الذي سنضيفه هذا العام في ذكرى النكبة، تناقشنا حول الكتابة عن تفاصيل الأحداث التي أفضت إليها، وهي كانت مجرد محاولة بسيطة للمساهمة في إعادة إحياء ما عاشه أجدادنا قبل 73 عامًا. أنا، المُقيمُ في بردِ شمال القارّة الأمريكية، أكتبُ عن ما لم أعشه، بل عن ما سمعته وقرأته ورأيته في الوثائقيات.
حين تشعر القدس بالخوف، يرتعدُ العالم بأسره. وكان باب العامود واسعًا بما يكفي ليدخل التاريخ منه ويمشي لحي الشيخ جرّاح
لكن فلسطين بشعبها المرابط رفضت فكرتي تمامًا، وتركتني وصديقي حيارى ومحرجين من الكتابة عن أيِّ شيء، بعد كل الذي حدث.
في العام الماضي، كتبتُ عن حاجتنا لمنطلق جديدٍ لخطابنا، وكتب صديقي عن إعادة ضبط التاريخ وفق معادلة الصِفر الفلسطيني، فهل تحققت أحلامنا؟
حين تشعر القدس بالخوف، يرتعدُ العالم بأسره. وكان باب العامود واسعًا بما يكفي ليدخل التاريخ منه ويمشي لحي الشيخ جرّاح، ظلمٌ زادَ عن حدّه فقرر أن يُغرق العالم بالحقيقة، وكانت الحقيقة هذه المرّة قوية للدرجة التي لم يستطع فيها المُحتل وأعوانه من إخفائها، فأصابهم مسٌ من جنونٍ على شكل قذائف وقنابل تساقطت على أهالي غزّة، كأنهم موعودين بها، تدفع غزّة ثمن عُري المحتل أمام الله، والبشر، والشجر، وتعطينا ثوبًا لنواجه العالم من أجلها.
هبّت اللد لأجل القدس، فهبّت كلُّ فلسطين.. لأجل فلسطين.
قلوبنا وأرواحنا تتراكضُ ما بين مكان إقامتنا وبلادنا، نتابعُ خبرًا بعدَ آخر، نرقص ونبكي، نتحسرُّ ونفرح، نلعن ونضحك، وفي لحظةٍ معينة، اللحظة التي تأخذنا فيها حقيقةُ أننا صرنا أقرب من أي وقتٍ مضى للبلاد، نرمي كل رومانسيات النوستالجيا لنخطط لما هو آتْ.
لم يتصدر الإعلام الديناصورات التي أوصلتنا إلى هُنا، بل كان الحديث لمن عانى منهم، كان الحديثُ حقيقيًا بما يكفي ليهتز جمهورٌ لم يسمع عنّا سوى الرواية المضادة. كانت الحقيقة تنتشرُ عبر كل وسيلة متاحة فتحتلُّ كل حيّزٍ خسرناه لأجل مصالح فلان وفلان، وحين صار صوتنا واضحًا للعالم، صَغُرت "إسرائيل" بعين جميع من كان يعتقدها غير ذلك.
لقد خطى بنا آل الكُرد وأهالي الشيخ جرّاح وأهلُّ اللد وحيفا وعكا ويافا وأم الفحم وغزّة وكل فلسطيني خرج من بيته خطوة إضافية على طريق التحرير، وعلينا – نحن الفلسطينيين الذين نتمنى أن نكون معهم، ونعمل بكل ما أوتينا من طريقة لندعمهم – أن نكون معهم، الشعب من أجل الشعب لا من أجل القيادات.
لقد كان لحضور شبابنا في الإعلام العالمي في المواجهات ما بين المُستَعمِر والمُستَعمر الواقعة حاليًا أثرٌ يضاهي حضور السياسيين على مدى سنوات كثيرة دون جدوى، ففد استطاع شبابنا التحدث للآخر عن معاناةٍ وقهر واضطهادٍ يمارسهُ عليه كيانٌ استعماري استيطاني على مدى عقودٍ دون أن يُتهم بأنه الجاني، ولو حدث ذلك، فإنه مردودٌ عليه بأدلةٍ تاريخية.
عادت فلسطين إلى الدائرة الأولى من اهتمام العالم، وهذا إنجازٌ عجزنا عن تحقيقه منذ أكثر من عقدين، وعلينا البناءُ عليه للمستقبل.
لم يعد صدأ القيادات وممثلي القضية يؤثر في الرأي العام، لكن الفلسطيني العادي حين ظهر على شاشات العالم أضاف مصداقية طبيعية لم يشهدها العالم من قبل، اختلف ميزان القوى الشعبية هذه المرّة لصالحنا، وسقطت دبلوماسيات أوسلو وما رافقها من تنازلات.
كم أود لو أرى وجوه كل من يوسف فايتس وديفيد بن غوريون حين تصلهم الأخبار أن من ظنّوا أنهم سيصيرون "إسرائيلين" مع الوقت، صاروا أكثر فلسطينية من أجدادهم الذين طرودهم تنفيذًا للخطة "دالت".
أثبتت اللد، وحيفا، ويافا، وعكّا، وأم الفحم وكلُّ الأرض، أن الزيت الفلسطيني لم ولن يختلط بماء "الإسرائيلي"، وأن كل محاولات الأسرلة والتهويد ستبقى كطحنِ الماء في الهاون، لن تُفيد بشيء.
لم يعد صدأ القيادات وممثلي القضية يؤثر في الرأي العام، لكن الفلسطيني العادي حين ظهر على شاشات العالم أضاف مصداقية طبيعية لم يشهدها العالم من قبل
وجدنا اليوم ما كنّا نبحث عنه، وجدنا فلسطين التي تخاف على فلسطين دون تغليب المصالح الشخصية، إن كل من تكلم وكتب وصوّر ونشر فظاعات الإجرام "الإسرائيلي" بحق الشعب الأعزل، قد ساهم في تعرية هذا الكيان أمامَ كل من له ضمير حيّ، وهذا ما كانت الجثّة تحتاجُ لتحيا من جديد.
لننفض عنّا غبار الماضي ولنعمل معًا، ضفّاويين مقدسيّين وغزّاويين ومقيمين في أراضينا المحتلة ولاجئين في دول الجوار ومشتتين بين القارات الأخرى، لنعمل معًا لخلق فلسطين الجديدة التي نستحق، كلّنا، باختلاف كلِّ شيء فينا، من اتجاه صلاواتنا حتى تفاصيل وجبة العشاء المفضلة لدينا، فالحقيقة تقول إن بلادنا، فلسطين، ستتسعُ لنا جميعًا.