في سوريا حفظنا عن ظهر قلب المحرمات الثلاث: الدين، الجنس، السياسة. تلك التي أشار إليها بوعلي ياسين في العام 1974 في كتابه "الثالوث المحرّم". ثم رحنا نعتاد على محرمات أخرى مع المضي في حكم الأسد: الجيش، الأمن، النفط، ثم ثروات المسؤولين والقريبين منهم.
هكذا كانت تزداد دائرة المحرمات اتساعًا بحماية أجهزة أمنية فظة وهمجية منتشرة كالصئبان على امتداد الجغرافيا السورية. إلا أن كل تلك الدوائر المحرمة تقع في إطار / وتنبثق عن المحرّم الأكبر في مستوطنة العقاب الأسدية وهو السياسة، فبقي الثالوث ثالوثًا حتى العام 2000 بدايات حكم الأسد الابن، حيث ظهر فجأة محرّم رابع (من خارج منظومة الحكم السياسية والأمنية) هو رامي مخلوف الذي ظهر أولًا مع شركة الاتصالات "سيرياتل" العائدة له قبل أن يتكشف كمالك لأكثر من 60 % من الاقتصاد السوري عبر مئات الشركات التي يملكها، أو يملك حصة الأسد فيها، أو أسهمًا بمقدار متفاوت.
بقي رامي مخلوف اسمًا محاطًا بالتحريم إلى أن ظهرت مؤخرًا بوادر خلافات مالية بينه وبين بشار الأسد ناتجة ـكما يشاع ـ عن أن روسيا طلبت مستحقاتها
وقد شاع أنه ليس سوى الواجهة الاقتصادية لبشار الأسد، وقد تأكد ذلك لدى السوريين عبر منع تداول اسم رامي مخلوف في الصحافة ووسائل الإعلام منعًا باتًا تحت طائلة الملاحقة الأمنية، وكذلك منع تداوله شفاهيًا الأمر الذي جعل الحديث عنه يتخذ طابعًا سريًا كما لو أنه منشور عن عصيان! ففي العام 2001 تم سحب جريدة الثورة من الأسواق نتيجة وجود تحقيق أجراه أحد الصحفيين عن "سيرياتل" وكان قد نُشر خطأً، ثم عوقب الصحفي بنقله إلى قسم آخر ومنعه من إجراء تحقيقات صحفية من أي نوع!
اقرأ/ي أيضًا: حجز النظام السوري لأموال رامي مخلوف.. ما دور روسيا؟
وفي 17/ 2/ 2001، وجّه عضو مجلس الشعب السوري مأمون الحمصي إلى الحكومة سؤالًا عن عقود الخليوي المشبوهة، وقد كلفه ذلك، إضافة إلى مواقف سياسية أخرى، تجريده من الحصانة البرلمانية وسجنه محكومًا بخمس سنوات، ثم هروبه خارج البلاد ليستقر به الحال في كندا بائعًا للحليب والكعك! وقد روى الحمصي في لقاء تلفزيوني أن رامي مخلوف قال له بعد إثارة الموضوع في مجلس الشعب: هناك أناس يضربون رؤوسهم بالصخر فتنكسر رؤوسهم والصخر لا ينكسر. في إشارة إلى أنه سيتم تكسير رأسه لو أعاد إثارة الموضوع.
تابع رجل الأعمال السوري وعضو مجلس الشعب آنذاك رياض سيف إثارة قضية الخليوي وكشف عن وثائق تدل أن الشعب السوري سيخسر 200 مليار ليرة سورية جراء إبرام عقود الخليوي (كانت الليرة السورية تعادل خمسين دولارًا) وكان ذلك في 26/ 3/ 2001. الأمر الذي كلف رياض سيف تجريده أيضًا من الحصانة البرلمانية وسجنه خمس سنوات.
لكن القضية لم تتوقف، حيث قام المفكر والخبير الاقتصادي عارف دليلة بإلقاء محاضرة بعنوان "الاقتصاد السوري: مشكلات وحلول" في 9/ 9/ 2001 وكانت قضية الخليوي من محاورها الرئيسة، فكلفه ذلك سجن عشر سنوات.
وغير ذلك الكثير مما تعرّض له سوريون جراء ذكر رامي مخلوف أو شركة سيرياتل أو شركة الخليوي الأخرى في سوريا MTN. نتذكر كسوريين أيضًا أنه في29/ 1/ 2011 أنشأ بعض السوريين مجموعة أطلقوا عليها اسم "منتوفين، موظفين وعاطلين، من موبيلاتنا منهوبين"، ودعت المجموعة إلى اعتصام سلمي أمام مجلس الشعب ضد نهب شركتي الخليوي الوحيدتين في البلد للناس. وعند ذهاب الناس للاعتصام في 3 / 2 / 2011 قامت أجهزة الأمن بتفريق المعتصمين واعتقال بعضهم.
بقي رامي مخلوف اسمًا محاطًا بالتحريم إلى أن ظهرت مؤخرًا بوادر خلافات مالية بينه وبين بشار الأسد ناتجة ـكما يشاع ـ عن أن روسيا طلبت مستحقاتها أو بعضًا منها من الأسد جراء حمايته من السقوط وهي مبلغ 3 مليار دولار، وعندما أظهر عدم امتلاكه المبلغ، طلبت تسديده من رامي مخلوف، وهنا بدأت القصة، حيث امتنع عن السداد.
في هذه الأثناء برزت وجوه جديدة في شبكة الفساد المالي التي تشكل عصب الأسدية، فقد ظهر ابن خالة أسماء الأخرس (زوجة بشار الأسد) مهند الدباغ الذي فيما لو اعتلى عرش الاقتصاد السوري مكان مخلوف فإنه سيسدد المبلغ، فتدخلت زوجة الأسد لإزاحة مخلوف وإحلال ابن خالتها مكانه. ذلك التبديل العائلي لم يكن واردًا حدوثه قبل وفاة "العقل المدبر" للنظام وهي أنيسة مخلوف (والدة بشار الأسد وعمة رامي مخلوف) التي سبق أن تدخلت حاسمة الصراع بين حافظ الأسد وأخيه رفعت الأسد 1984، والتي بقيت عائلة مخلوف متحكمة بالقرار الاقتصادي وبالمكانة الاجتماعية والسياسية بفضلها.
وقد سمتها تقارير غربية "الملكة" من حيث تأثيرها على القرار السياسي للأسدية، لاسيما قيادتها الحرب على السوريين منذ الثورة على نظام ابنها الذي أسّسه زوجها قبلًا! بوفاتها انفرط عقد آل مخلوف ليصعد مكانهم آل الأخرس، وتحل أسماء الأخرس محل أنيسة مخلوف بميلشيا اقتصادية تتبع لها.
بوفاتها أنيسة مخلوف، انفرط عقد آل مخلوف ليصعد مكانهم آل الأخرس، وتحل أسماء محل أنيسة بميلشيا اقتصادية تتبع لها
لجأ رامي مخلوف كردّ، أو جزء من رد على كل ذلك إلى ظهور إعلامي لإحداث شرخ وإعادة اصطفاف في البيئة المؤيدة، عبر تركيزه على أعمال خيرية مزعومة قدمها لبيئته، وعلى قيامه بتأسيس ميليشيا داعمة للنظام، وغيره مما ذكره في ظهوراته التي اتسمت بالتهديد بالكشف عن "آخرين" يعملون معه ويعمل لحسابهم، وقد تم تفسير ذلك أنه يشير إلى بشار الأسد وآخرين من قلب النظام بوصفهم أصحاب المال! مشيرًا إلى معركة قد تنشب في حال الاصرار على إزاحته.
اقرأ/ي أيضًا: أملاك رامي مخلوف في ذمة الأسد.. ما علاقة روسيا؟
بذلك، تحول المحرّم الرابع إلى مستباح، ليس في الإعلام والمشافهة فحسب، بل ميدانيًا أيضًا، حيث يتم الحديث إعلاميًا وعبر وسائل التواصل عن مداهمات واعتقالات وملاحقات للمجموعات القريبة من رامي مخلوف، ولمداهمة شقته (إحداها) ومزرعته (إحداها) وغير ذلك...
اقرأ/ي أيضًا: