يوم الثلاثاء 6 آب/ أغسطس، أنهى الفنّان الفلسطينيّ كمال بُلاطة (1942 - 2019) أسفاره. غادر عالمنا في العاصمة الألمانية برلين مُنهيًا رحلةً طويلة استمرّت خمس عقودٍ من الزمن، قضاها متنقّلًا بين فرنسا وأمريكا والمغرب وبيروت وألمانيا وإيطاليا، يحمل معه القدس التي ولد في أحد أحيائها، باب السلسلة، قبل النكبة بست سنوات أينما ذهب، لتشغل مع الوقت المساحة الأكبر من فنّه واشتغالاته التوثيقية والفكرية أيضًا.
كان رسم الأيقونات أول ما تعلّمه كمال بُلاطة، قبل أن ينتقل إلى رسم بورتريهات لحارات القدس القديمة
دخل كمال بُلاطة فضاء الفن من باب خليل الحلبي (1889-1964)، الفنّان المقدسي الذي كان والداه يُرسلانه إلى محترفه في العطلة الصيفية لأجل صقل موهبته. وهناك، كان رسم الأيقونات أول ما تعلّمه بلاطة، قبل أن ينتقل إلى رسم بورتريهات لحارات القدس القديمة، شغفه الأكبر. ومن البورتريهات، انتقل بلاطة نحو إنجاز لوحاتٍ تعبيرية وتجريدية، وعكس ذلك شغفه في التجريب وعدم الانحياز لمدرسة أو نمطٍ فنّيٍ دون آخر.
اقرأ/ي أيضًا: رحيل توني موريسون.. الأسئلة الأكثر استبصارًا
بابتعاده عن القدس جغرافيًا، وسفره إلى العاصمة الإيطالية روما لمتابعة الدراسة في "أكاديمية الفنون"، وانتقاله بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية لأجل تجربةٍ دراسية جديدة في "مدرسة متحف كوركوران للفنون"؛ تنّبه بُلاطة صاحب "بلقيس" إلى اهتمامه بفنّ الأيقونة والفنون الإسلامية، وهو ما لم ينتبه إليه عندما كان في القدس، وكأنّ الإنسان/ الفنّان بحاجة لأخذ مسافة كافية بينه وبين الأشياء/ الأمكنة التي يحبّها لإعادة اكتشافها ورؤيتها كما لم يراها من قبل.
يقول بلاطة في إحدى مقابلاته: "لم أكتشف هذه الأشياء في طفولتي، بل عندما أُبعدت جغرافيًا عن بلدي. عندما كنت في القدس، لم يكن بإمكاني القول أنّني أهتمّ بفنّ الأيقونة أو الفنّ الإسلامي. لأنّني خلال حياتي هناك كنت أنظر إلى الغرب، وخلال حياتي في الغرب، كنت أنظر إلى الشرق، وأعتقد أنّ هذا النوع من التصرّف متوسّطي جدًا". يُضيف: "لا علاقة لي بالتراث البيزنطي-الإسلامي، ولكنّني أخذ اللبّ الموجود فيه، تمامًا مثل الطائر الذي يرى سمكة في البحر، فيهجم عليها ويلتقطها ويترك البحر كما هو. أنا أخذ من هذا البحر/ التراث ما يُطعمني فقط، وليس من الممكن أن أعيش من دون هذه العلاقة؛ أستعين بالأشياء الجوهرية والأساسية التي بُني عليها تراث مئات السنين، من خلال العودة إليها ومن ثمّ نفض الغبار عنها، والنظر إليها بطريقة جديدة".
سفره إلى إيطاليا ومغادرتها نحو الولايات المتحدة، حيث أمضى هناك أكثر من 25 عامًا، فتح الباب لانتقال كمال بُلاطة من التشخيص ورسم البورتريهات، إلى التجريد. "كانت نظرتي للفن قد تغيّرت" يقول مُفسّرًا هذا التحول. في الولايات المتحدة، اشتغل على أبحاث وترجمات شعرية عديدة، منها أنطولوجيا صدرت بالإنجليزية سنة 1981 تحت عنوان "نساء الهلال الخصيب". ومن واشنطن، فضّل بلاطة ألّا يكون مجرّد متفرّجٍ على ما يحصل في أرضه الأولى، فلسطين، إبان انتفاضة 1987. فأصدر حينها كتابًا ضمّ رسومات لأطفال فلسطين تحت عنوان "شهادة الأوفياء: أطفال فلسطين يعيدون خلق عالمهم" (1990)، وأنجز أكثر من 200 ملصق سياسي باللغتين العربية والإنجليزية لدعم الثورة الفلسطينية.
ومن الولايات المتحدة، سافر بلاطة نحو المغرب، واستقرّ مؤقتًا في مدينة الرباط لمدة أربع سنوات بعد أن حصل على منحة لدراسة الفنّ الإسلامي هناك، وتأثير الكلمة والخط العربي في فن العمارة الإسلامية، والعمارة الأندلسية. مهّدت دراساته هذه لبداية تجربة جديدة عنده، تنهض على التوليف بين الخطوط الهندسية من جهة، والخط الكوفي من جهةٍ أخرى.
وصف الفيلسوف الفرنسيّ جيل دولوز الفنانَ الفلسطيني كمال بُلاطة بالرحّال الذي تعيش القدس دائمًا في باله
الفنّان الذي وصفه الفيلسوف الفرنسيّ جيل دولوز بـ"الرحّال" الذي تعيش القدس دائمًا في باله، والذي لا يريد التوطّن أو الاستقرار في أي بلدٍ في الوقت الذي لا تزال فيه بلاده محتلّة؛ لم يكتف بالرسم فقط، وذهب نحو إنجاز العديد من الأبحاث حول الفنون الإسلامية في المغرب وإسبانيا، وكذا حول الرسم في فلسطين ما بعد الحقبة البيزنطية. وأصدر الراحل مجموعة كتاب تدور حول الفن الذي كان بالنسبة إليه عملًا متكاملًا، منها "استحضار المكان: دراسات في الفن التشكيلي المعاصر"، و"الفن الفلسطيني من 1850 إلى يومنا الحاضر".
اقرأ/ي أيضًا: شوقي شمعون.. أناس يصغُرُون من أثر الدهشة
كمال بلاطة، الفنان والمؤرّخ والباحث والأديب، الذي قضى جلّ حياته مسافرًا ومتنقّلًا بين بلدٍ وآخر، وبعيدًا عن أرضه الأولى، رحل عن عالمنا وهو لا يزال يردّد أنّ "الثورة" لا تزال قائمةً في أعماقه.
اقرأ/ي أيضًا: