عبر الموائد التي تجمع العائلة، والطقوس التي تُذكّر بأزمنة البيت، يمنحنا رمضان بلادًا مؤقتةً، على مدار ثلاثين يومًا كل عام.
بالمقدار ذاته من الأهمية التي للصحون الملوّنة بالأطعمة، تغدو المسلسلات التلفزيونية فاعلًا حاسمًا في عملية السحر التي نعيشها، لنجد نحن اللاجئين، سلامًا نفسيًّا ما كنا نعرف إليه سبيلًا.
لا يكتفي الناس بقوائم المشاهدات التي يُعدِّونها لمتابعة الأعمال التلفزيونية الجديدة، بل لديهم على التوازي قوائم إعادة مشاهدةٍ لأعمال شاهدوها في بلادهم، كي يستعيدوا زمنَ البيت.
المنفى صمتٌ بسبب غياب اللغة المشتركة مع المجتمع الجديد، لكنّه يستحق أن يُعلل، في حالة المسلمين منهم، باختفاء أصوات المؤذنين
أكثر ما يُؤثر في الواصلين إلى البلاد الجديدة أنّ معالم عالمهم القديم تختفي، ومن ضمنها صوتُ الأذان. المنفى صمتٌ بسبب غياب اللغة المشتركة مع المجتمع الجديد، لكنّه يستحق أن يُعلل، في حالة المسلمين منهم، باختفاء أصوات المؤذنين.
كثيرًا ما يتحدّث اللاجئون ممن تسنّتْ لهم زيارة بلدان إسلامية، تركيا أو مصر، أنّ أجمل ما شاهدوه هو الأذان. ومثلما نُصدّق أنهم بكوا في اللحظة التي داهمَ آذانهم الصوتُ العاصف في المآذن، علينا أن نُصدّق بالقوة ذاتها أن ذلك الصوتَ يُرى، لأنَّ حواسَ المنفيين لا تعمل بالطريقة التي تعمل بها حواس غيرهم.
تكبيرات العيد محذوفة هي الأخرى من حياة المنفيين، وليس لهم سوى صفحات الإنترنت من أجل استعادتها. وبما أن الإنسان يحبُّ ما أَلِف ونشأ عليه فإن سوريي المنفى يستهلون أعيادهم دومًا بتشغيل تكبيرات الجامع الأموي على شاشات الموبايل.
من عجائب المنافي أنّ عيدًا قديمًا يبثّ الحياة في عيد جديد!
يبالغون في الطعام. هذا مفهوم جدًّا. البلدان تُستعاد في المطابخ. الناس يعودون إلى ديارهم بالأكل.
هل الطعام راحلة والأكل رحلة؟
ربما لأنّ الانتماء إلى العالم يبدأ من حليب الأم الذي يدخل في أحشائنا، وبالمثل فإننا ننتمي للمكان بطريقةٍ تحاكي فعلَ حليب أمهاتنا. الفرق أننا ننسى لاحقًا طعومَ حليبهنّ لكننا لا ننسى طعم الحلوى التي كانت تُباع قرب مدارسنا، ولا روائح الأسواق التي زرناها مع أهلنا، ولا ضجيج الحارات التي لا تعرف الهدوء سوى في ساعات الليل المتأخرة.
في مشهدين متشابهين يؤكدان أن الأوطان طعام ومطابخ، وأنّ التوطّن فيها شهية ونهم؛ يقول مسعود، في مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، إن الجميع من حوله حين يجلسون يبدأون بالحديث عن البلاد، وعن الشوق المستطير إلى البلاد، لكنّ جزءًا كبيرًا من ذلك الكلام عن الأكل. وفي رواية "باب الشمس"، يجلب يونس الأسدي، خلال تسلّله من لبنان إلى فلسطين، كيسًا من برتقال. ويُفتتح الفيلم المأخوذ عن الرواية بمشهد وليمة البرتقال الرمزية. طبعًا الوليمة تضاعف رمزية البرتقال. يأكل يونس والدكتور خليل وأمُّ حسن بنهم حيوانيّ، حتى أنهم يُكومون تلةً من القشور، بينما يقول يونس إننا يجب أنّ نأكل فلسطين كاملةً.
البلاد تُؤكل.. البلاد تأكل.
رمضان شهر جماعيّ في أصله، يجمع الناس لجهة الحالة العامة في الصبر على الصيام والشعور بالمساكين، ويجمع العائلات حول الموائد مساء وفجرًا، وفي صلاة التراويح، وأمام شاشة التلفزيون.
يُشبع رمضان المنفى في المغتربين انتماءهم المصاب بعطب، ويُشعرهم بالتفاؤل والأمان بأكثر من طريقة، لا سيما بعدما جعلتهم الظروف العصيبة التي عبروا فيها يدخلون في حالة من انعدام اليقين تجاه المستقبل
أما رمضان المنفى فيُشبِع في المغتربين انتماءهم المصاب بعطب، ويُشعرهم بالتفاؤل والأمان بأكثر من طريقة، لا سيما بعدما جعلتهم الظروف العصيبة التي عبروا فيها يدخلون في حالة من انعدام اليقين تجاه المستقبل. يفعل رمضان المنفى ذلك كله من خلال ما يوفره من شعور بالانتماء عبر التواصل بين البشر المشتركين بالخلفية الثقافية، وعبر استعادة كل منهم لارتباطه بجذوره، بما يكفي للإحساس بالقدرة على الاستمرارية، والأمل المهم للغاية للصحة النفسية.
ولأنّ المناسبات الدينية حافلةٌ بالقصص، أو لكونها مواسم للقصص، فإنّ في هذا الشهر فرصًا للعودة إلى القصص المقدّسة، التي تتضمّن بين ما تتضمنه حكايات الانتصار على المحن والخلاص، مثل قصة هجرة النبي محمد إلى المدينة المنورة في زمن الإسلام المبكّر.
تشكّل هذه القصص مصدر إلهام للاجئين، وتُشعرهم بجدوى المكابدة والصبر وأهمية التحدي، وربما تُساعدهم على فهم تجاربهم الشاقة، بما يفضي في النهاية إلى إيجاد معنى لحياتهم.
ما لا يمكن نسيانه أنّ الرائحة تغدو سيدةً وتفرض إيقاعًا خاصًا على شوارع المدن الغربية. ففي الأجزاء التي تتواجد فيها أسواق عربية، لا يتذكر الناس أسواق مدنهم الشعبية وحسب، بل إنّ الرائحة التي تتداخل فيها التوابل مع شراب العرقسوس والتمر الهندي مع غوايات الحلويات.. تجعلهم يعودون، نعم يعودون، فالأنوف بساط ريح للعقل، وآلة زمن للقلب.
بسبب ذلك يمكننا القول؛ رمضان يخلق بلادًا مؤقتة، رمضان يمنح المنفى إجازةً!