نعمل في حياتنا، بدأب، على بلوغ ذروة الانتصار والنجاح. ونسعى، في حالات أخرى، وبدأب أيضًا، إلى تجنب الوصول إلى ذروة الإخفاق والألم. ولذلك، يمثّل مصطلح "الذروة" مفاهيم متناقضة في حياتنا. لكننا، في الحالتين، نعرف أنه مصطلح فريد من حيث أنه لا يشير إلا إلى الحدود القصوى من كل شيء.
و"الذروة" هو العنوان الذي أعطته الروائية الجزائرية ربيعة جلطي لروايتها، الصادرة عن "دار الآداب" في بيروت عام 2010، التي يصل فيها كل شيء إلى ذروته تقريبًا؛ الاستبداد والطغيان الذي يجسّده "صاحب الغلالة" في الرواية، والفن وجمال الحياة في صورة البطل "أندلس"، والفشل عند "الياقوت"، والحب عند "زهية".
تتناول رواية "الذروة" مواضيع مختلفة ومتناقضة تتعلق بالمرأة والفن والعلاقة بين المسلمين واليهود أحيانًا، والاستبداد وتحويل الإنسان إلى أداة في يد السلطة في أحيان أخرى
في هذه الرواية، نحن أمام عمل فني مميّز يقدّم نظرية نقدية شاملة للمجتمع، ويستعرض في الوقت نفسه طبيعة نظرته للمرأة والسلطة معًا. وهكذا، تلج الرواية في كواليس الحكم، وتُبرز المفاتن التي تكتنفه، وتُسقط الصورة السائدة لدينا عن الرئيس الذي تسمّيه الروائية بـ "صاحب الغلالة". فهذا الرجل الخطير الذي يُخيف العباد، سيُهزم أمام امرأة جميلة تعيش بالفن. والأخير، إلى جانب المرأة، أحد أشكال مقاومة جبروت هذه السلطة التي لن تظهر هشاشتها إلا أمامهما. وفي هذا السياق، يقول "صاحب الغلالة" لأندلس: "إن الأفئدة مراتب ومدارج ومقامات، فأنت الذروة".
في المقابل، تطرح الروائية قضية تاريخية مهمة في الجزائر، ودول شمال أفريقيا عمومًا، تتعلق باستقبال المهاجرين اليهود منذ الحروب الصليبية، أولئك الذين: "أتوا معًا ذات نكسة من خلف البحر الأبيض المتوسط" كما تقول الروائية. ومنذ ذلك الوقت، عاش المسلمون واليهود والنصارى أيضًا، حياة جميلة وهادئة، وصار الأطفال: "يأكلون على مائدة الجارة دون تمييز".
لكن هذا سيتغير فيما بعد، أو هذا ما سنكتشفه في قصة ابن آل كرز اليهودي الذي يحكي لزهية محنة عائلته المتعلقة بتشكيك الآخرين بوطنيتهم رغم أنهم لا يعرفون وطنًا غير مدينة "مستغالم"، أو "مستغانم" اليوم. ولعل تسمية بطلة الرواية "أندلس" يعطي انطباعًا عميقًا للفكرة السابقة وكيفية تشكّلها في المخيال الجمعي. وفي هذا السياق، يُقرأ الحب بوصفه سلطة رمزية عُليا تُشيع التسامح بين اليهود والمسلمين.
للمرأة حضور كبير في رواية ربيعة جلطي يتجلى أكثر ما يتجلى في شخصيتي "لالة أندلس" وحفيدتها "أندلس"، إحدى الراويات، التي أوقدت فيها جدّتها حب الكمال وسعت دائمًا إلى تقلّد أجمل الصفات، فهي الطفلة المحبوبة من الجميع، والفنانة التي أطاحت بعقل "صاحب الغلالة" الذي جثا أمام جمالها وشخصيتها الاستثنائية.
ومن خلال "صاحب الغلالة"، تتناول الروائية الجزائرية الصراع على السلطة خلف الكواليس، حيث ثمة أناسٌ يقتاتون على الديكتاتورية والجور. وهم، على عكس تصوراتنا السائدة عنهم بوصفهم أصحاب شخصيات فريدة ومختلفة، ضُعفاء ومختلون ومنافقون يثيرون الاشمئزاز في الكثير من الأحيان. فشخصية "صاحب الغلالة" ليست إلا نموذجًا لشخصيات الكثير من الحكّام في بلداننا، بينما تبدو شخصية "الياقوت" صورة عن تلك "الماريونات" (الدُمى) التي تحرّكها الأنظمة الفاسدة لتنفيذ المهمات القذرة وفرض سلطة الشرّ والظلم، ذلك أنها مستعدة لتنفيذ أقذر المهمات من أجل الحفاظ على نفوذها ومنصبها الذي لا تستطيع العيش دونه.
في العودة إلى شخصية "صاحب الغلالة" وسلطته، نجد أن الأخيرة مثالًا شديد الوضوح عن طبيعة أنظمة الحكم في البلدان العربية حيث يتكاثر العنف والفساد والشمولية. فعندما أبت "أندلس" الرضوخ لفكرته، هدّها بسلطته المطلقة وقدرته على تحريك أي شيء في البلد من أجل إشباع غرائزه. لكن هذه السلطة لا تدوم. ومن خلال نهايته، تقدّم لنا الرواية مثالًا على مصير الولاء للمصلحة بدلًا من الأشخاص أو المصلحة العامة. وفي هذه النهاية الكثير من الأمور المشتركة مع ما جرى خلال "الربيع العربي" لناحية سقوط أنظمة احتكرت الحكم لسنوات طويلة.
وبعيدًا عن السلطة وصراعاتها، تقترب الرواية بجرأة من حميميات الأنثى من خلال "أندلس" التي تتحدث عن تشكل أنوثتها وتطوّر صفاتها الأنثوية بعفوية، ولا تخفي تعلّقها بعمّتها زهية التي ترى فيها مثالًا يُقتدى به. ولعل الرواية، في جانبها هذا، تُبرز فكرة التحرر من منطق وعي المرأة بأنوثتها دون خزي أو خوف. فطريق التحرير يبدأ من الوعيّ بالجسد، وما يتشكّل فيه، الذي تعبّر أندلس في مشاهد مختلفة عن أزمته في مجتمعاتنا المنغلقة التي تتعامل مع الجسد والجنس بوصفهما تابوهات.
تناقش الرواية أيضًا مسألة احتقار الذات التي نلمسها في شخصية "الياقوت" وصديقتها "سعدية"، اللتان اختارتا السقوط في الحضيض بعد فشلهما في تحقيق النجاح في الحياة. ومن خلال حكايتهما، تُشير الرواية إلى فكرة "تشيئ" الإنسان التي تجسدت في تحويلهما من قبل "صاحب الغلالة" إلى وسيلة لنشر الفساد والقبح. تقول سعدية في جوٍ من الندم: "ربّما أندلس وحدها تفطّنت للعبة، ظلّت بعيدة عنها، بمنأى عن الجراح والسلاخ والمساخ، بمنأى عمّن يستعدّون كل الاستعداد ليرمّموها على مزاجهم".