هي من أشهر قصائد الشاعر الفرنسي روبير ديسنوس الذي قضى سنة 1945 في مخيم اعتقال بالتشيك، بعد مدة من التواجد في سجون النازية. وبعد أن عاش الحرب شاعرًا عاشقًا للحرية والحبّ ومقاومًا عنيدًا. لأنه كان صديق الشاعر الغرناطي غارسيا لوركا والكوبي أليخو كاربانتير الذي هرّبه من كوبا خفية في مقطورته بالباخرة سنة 1928، ولأنه يكره الفاشية، هو الذي يحب الحياة ومرح الليل حد الإزعاج وحد صفع الوجوه التي لا تروق ذائقته.
ولأنه في سنه الثانية والعشرين بوأه أندريه بروتون نبيًا للسريالية، قبل أن يقلب عليه طاولة الشعر المكتوب آليًا تحت التنويم، الذي برع فيه كما لا أحد من قبله. والسبب: غنائيته الفائقة، اليسر في خلق تنويعات لغوية تأخذ منحى أبيات لا تضاهى، هي من عيون الشعر الذي يحفظه دارسو الفرنسية من كل الأعمار عن ظهر قلب. كتب في السينما وفي التشكيل، وكان مبدعًا في مجال الإذاعة قبل الزمن، واشتغل في الإشهار قبل الزمن. ومع ذلك كان عصاميًا وكان فقيرًا، وكان شاعرًا من قبل ومن بعد، أي من هؤلاء الذين يجدون حقيقة البحر في قطرة ماء، وحقيقة السماء في تحليقة طائر.
عند إعلان الحرب العالمية الثانية، انخرط في العمل السري، يحارب المتعاونين مع المحتل النازي، فاضحًا إياهم ومقاتلًا بعضهم في حواري باريس، وصحفيًا ناشرًا الأمل مع واجب الذهاب إلى المعركة. بين قصيدتين كان يفعل. بين رقصتين وكأسين في قبو يصدح بالجاز كان يفعل، وبين قصيدتين ورسمين على طاولة عند صباح يلتقي ليلًا ماحيًا سير الزمن كان يفعل. لم تكن الحياة في عرفه استلقاء ملولا في دفء شمس أمام حديقة محصنة.
فهو لم يتوقف طيلة سنين الحرب عن نشر الدواوين، إلى أن اعتقله رجال الغيستابو سنة 1944. واقتيد من مخيم اعتقال إلى آخر، أبرزهما أوشفيتز وبوشنفالد، في مسيرة موت ضمن 1700 معتقل. وكان بالإمكان ألا يُعتقل. فقد أخبرته صديقة جد مطلعة على مجريات الأمور حينها، عن قرب الإمساك به، وأوصته بأن يفر بجلده. لكنه لم يفعل، لكي لا يترك زوجته "يوكي" وحيدة تتعرض للتنكيل والتعنيف بدلًا منه، هي التي تركها له حبيبةً وأمانةً زوجها السابق الفنان التشكيلي الياباني الذي كان لاجئًا بفرنسا، فوجيتا. كتب إلى هذه الأخيرة ضمن ما كتب: "تمنحني هذه الحرب كل السعادة التي يمكنها أن تمنحني إياها: برهان على الصحة الجيدة والفتوة والرضى التام على فضيلة إزعاج قوي لهتلر". أليس هذا رأي شاعر لا مهادن.
وكان بالإمكان ألا يموت، فقد كانت الحرب بصدد وضع أوزارها بانتصار الحلفاء وتقدم الجيش الأحمر من المخيم الاعتقالي الذي كان ممدًا فيه بعد أن نال حريته. لكنه مات، مات الشاعر بكل بساطة جراء البؤس والجوع والحرمان وإصابته بحمى التيفويد. وكان بالإمكان ألا يُعثر على جثته قط، لولا تعرف إتنان من الممرضين التشيك عليه. أحدهما سبق له أن قرأ للشعراء السرياليين، فحين وجد اسمه ضمن لائحة المعتقلين أسرع بالبحث عنه. لما وجداه قال لهما بنفس متقطع: " نعم، الشاعر روبير ديسنوس هو أنا". ها هنا نصُّ القصيدة.
هذا القلب الذي كان يكره الحرب
ينبض الآن من أجل القتال والمعركة!
هذا القلب الذي كان ينبض حسب إيقاع المد والجزر
لا غير،
حسب إيقاع الفصول، وحسب إيقاع ساعات النهار والليل،
ها هو الآن ينتفخ
ويرسل عبر الأوردة دمًا يشتعل ملحًا صخريًا وكراهية.
مما يقود إلى صراخ في المخّ لدرجة أن الأذنين ترنان،
الصراخ الذي سينتشر لا محالة في المدينة والبادية،
مثل صوت جرس ينادي هيا نحو التمرد والقتال.
أنصتوا،
إنني أسمعه يرتد نحوي عبر الصدى الذي له.
لكن لا، هو صوت قلوب أخرى،
ملايين القلوب الأخرى التي تنبض مثل قلبي في جميع أنحاء فرنسا.
كل هذه القلوب بذات الإيقاع لذات المهمة،
صوتها هو صوت البحر الذي يهجم على الأجراف
وكل هذا الدم يُقِلُّ في ملايين الأدمغة نداء واحدًا:
لنثر ضد هتلر وليَمُتْ أنصاره!
وبالرغم كان هذا القلب يكره الحرب وينبض حسب إيقاع الفصول،
إلا أن كلمة واحدة
هي الحرية كانت كافية لاستنهاض كل الغضب المجَمَّعٍ القديم
ليستعد الملايين من الفرنسيين في الخفاء للمهمة التي سيوجبها عليهم اقتراب الفجر.
لأن هذه القلوب التي كانت تكره الحرب
تنبض الآن من أجل الحرية
حسب إيقاع الفصول والمدّ والجزر
واللّيل والنهار.
اقرأ/ي أيضًا: