في رواية زقاق المدق البطل هو المكان بلا منازع، هو ظلمة الزقاق وما يغشاه من كآبة في الليل، تشي بعالمه المظلم وما يفضحه النور الخافت من ملامح وعادات سكان المكان.
المدق زقاق صغير يتفرع من الصنادقيه، وهي إحدى الأحياء العتيقة في حي الحسين الكبير، قلب القاهرة بتراكمها الإنساني والمادي من تاريخ وبشر، يرصده في أحد أحلك الفترات الإنسانية التي عاشها أهل الزقاق زمن الحرب العالمية الثانية، حيث الفقر المدقع وقلة الحيلة والطبقية الفاحشة وسطوة المال والسلطة على كل شيء.
أما الناس -أهل المدق- فقد كانوا جوقة مجتمعة تعكس الروح اليومية في الزقاق، يمارسون روتينهم في العمل والأكل والشرب والزواج والموت، هناك شخصيات هي متن القصة مثل حميدة التي لعبت دورها شادية في الفيلم والتي كان عماد شخصيتها الأول شهوانيتها في كل شيء.
لم يستطع سعد الدين وهبة أن يمسك بتلابيب فكرة نجيب محفوظ، فبدت حميدة في مشاهد سقوطها "ساذجة"، يلهو بها القواد
فقد كانت تشب للعراك شبوبًا كما تشب النار، وتضرم في قلبها حريقًا، وتوصل شكواها إلى ضريح الحسين نفسه إذا ما خذلها لسانها وشهوتها للعنف أمام جارة من اللاتي كن يحتقرنها أو يتجنبنها لطول لسانها.
كانت شهوتها للمال هي محركها الأول منذ بداية القصة فلم يقدمها نجيب مثلما قدم "أمينة في الثلاثية"، نفس واهية، خاضعة، واقعة تحت سطوة رجل، بل كانت هي نفسها السطوة والشهوة، والطموح الذي لا يحده خُلق ولا يراجعه عطف.
اقرأ/ي أيضًا: شين بلاك في فيلم "الرجال الطيبون".. كوميديا العنف
ولا يفوت نجيب تفصيلة عبقرية في شهوتها الجنسية بعد أن احترفت الدعارة، وهي أن يصف كيف كان "العراك اليدوي" أو "الصفع"، هو بداية للقاء جسدي بينها وبين نخاسها "إبراهيم فرج"، الذي علمها أصول المهنة.
أما عباس الحلو، فهو الضفة المعاكسة لها تمامًا، وهي أيضًا تذكرنا بشاعرية ورومانسية "كمال" في قصر الشوق الحب، المشتعل الذي يصل ذروته ثم يهبط بقسوة بعد اصطدامه بحقيقة الحياة وحقيقة حبيبته، لكنه يصورها من منظور آخر غير منظور المثقف الأفلاطوني الحالم.
فهو هنا يطأ نفس الحلاق العادي الذي يتجنب طوال حياته آفة الجدل والصراع، ويرى الحياة فانية، فيهب الكفن لصديقه بائع البسبوسة العم كامل.
على الهامش حياة الزقاق: المعلم كرشة اللواطي الغليظ وابنه حسين الشيطان، الباحث عن المال والمتعة والكهرباء والحضارة كما قال لأبيه. جعدة وزوجته الفرانة، أم حميدة التي تعمل خاطبة، الدكتور بوشي التمرجي سارق أطقم الموتى وبائعها للأحياء، زيطة الشحاذ القذر ومخترع العاهات، وقبلة الشحاذين الراغبين في حياة كسب أفضل. والشيخ درويش الذاهل الحاضر عن الدنيا.
حميدة في الرواية كانت البطلة التي باعت كل شيء في سبيل المال حتى أمها التي تبنتها، فهربت مع إبراهيم فرج وتمرغت في نعيم المهنة الجديدة، حتى أن الضباط الإنجليز يدفعون بسخاء لقاء جسدها الفاتن، أما عباس الحلو الذي سافر إلى التل الكبير ليجمع المال لأجل خطيبته، فقد عاش ليكتشف خيانتها له وهروبها مع الأفندي.
الصورة السينمائية الباهتة
تحولت رواية نجيب محفوظ إلى فيلم من إخراج حسن الإمام عام 1963، بطلته شادية، وصلاح قابيل الذي لعب دور عباس الحلو، وحسن يوسف صديق البطل الذي لعب دور حسين كرشة.
من البداية كان لسعد الدين وهبة كاتب السيناريو، جملًا شديدة التوفيق، بداية من المشهد الأول، وهومشهد "طرد" الحكواتي من القهوة لاستبداله بالراديو، رغم أن مهنة الحكي هي مهنته الوحيدة التي يأكل منها، فيقول متوسلًا للمعلم كرشة صاحب القهوة:
- يا معلم ده راديو يعني خشب وحديد لا بياكل ولا بيشرب!
- فيرد المعلم: لا بياكل ياخويا من بطاريته!
استبدل حسن الإمام شخصية عم الكامل صاحب اللغد السمين بعبد الوارث عسر شيخ الممثلين وكان موفقًا في ذلك، كما دمغ حكم الشيخ درويش في قلب الحديث الشعبي العادي بين عباس الحلو وصديقه حسين كرشة، فلم تبد غريبة أومقحمة وهو يحدثه عن الغرام: "مدمن القرع للأبواب يصل"، كما تدعم أقوال شكسبير في أحايث الإنجليز العادية حتى وصلت إلى إعلاناتهم التجارية.
بدت سيطرة حميدة على عقل البطل الذي يحبها بفرض شروطها عليه، وهي المساحة التي يسمح في واقع الأمر المجتمع بتقبلها "أن ترسم المرأة وتخطط للحياة الزوجية"، الحوار فيما يلي هذه المساحة جاء عاديًا.
لم يستطع سعد الدين وهبة أن يمسك بتلابيب فكرة نجيب، فبدت حميدة في مشاهد سقوطها "ساذجة"، يلهو بها القواد، بينما كانت في الرواية تعرف جيدًا أنه قواد، وتعرف جيدًا أنه يريدها عاهرة، غير أن فكرة السقوط بالإرادة وليس رغما عنها بدت وكأنها غير محبذة عند "الجمهور" وقتئذ.
لم يوفق حسن الإمام في تجسيد شهوانية حميدة وعزوفها الكامل عن حياتها الماضية الفقيرة، ربما أيضًا كانت المواصفات الجسمانية ليوسف شعبان وقتها موفقة، الشاب الوسيم، المارق، الرزين، لكنه رسم شخصية قواد باهتة عكس تلك الصارمة الساخرة التي بين وريقات نجيب.
حميدة أو "تيتي" بعد احترافها الجديد لم تندم يومًا على ما اختارته من حياة جديدة، وكان يحركها دومًا رغبة الانتقام ممزوجة بعشق لا يخضع من إبراهيم، وليس حبًا خالصًا له، بينما بدت في الفيلم ضعيفة أمام الحب يحركها ضعفها.
ربما بدأ مشهد لقائمها الأخير -قبل وفاة حميدة- سيراليًا بديعًا. فمحل الورد يُغلق بسبب الغارة، وتُطفأ الأنوار وتأبى حميدة أن تذهب إلى الملجأ، وتبقى مع عباس، ردودها عليه كانت مرتبكة ولكنها كانت غير مبالية بينما بدت حميدة في الفيلم مرتبكة ومضطربة وربما استخدمت لفظ "أنا انتهيت" لتعلن شيئًا من الندم على حياتها التي كانت مرتقبة معه أوحتى في الزقاق.
اقرأ/ي أيضًا: بانوراما الفيلم.. 5 أفلام وثائقية جديرة بالمشاهدة
أما في الرواية فقد كانت تستخدمها في سياق فكرة جهنمية لكبت نداء شهوتها للانتقام من إبراهيم فرج، قوادها الذي لم يحبها، بيد عباس الحلو الذي هام بها، محرضة عباس على الانتقام لشرفه، من ذلك القواد الذي أغواها.
كانت رسالة نجيب محفوظ في أبسط صورها، ربما هي أن نتوقف عن قتل الشرير في نهاية القصة. أن نمنح القوة شيئًا من المنطق والإنصاف والعقل.
مشهد النهاية والدلالات
أراد حسن الإمام لحميدة أن تدفع ثمن سقوطها تلبية "لشهوة" الجمهور في رؤية امرأة تسقط، تدفع الثمن غاليًا، كما يحدث عادة في الأفلام، "لزوم" العظة والعبرة. ولكن الرواية كانت أقرب لقصص الجنس البشري الخالدة التي عاشت فيها سالومي وذُبح فيها "النبي" يحيى.
من قُتل في الرواية كان عباس الحلو، قُتل في الحانة حين اجتمع عليه الجنود الإنجليز، وقد كان ذاهبًا ليثأر لشرفه. ومر الوقت ونسيه أهل الحارة في دوامة حياتهم اليومية، بينما عاشت حميدة.
كانت رسالة نجيب في أبسط صورها، ربما هي أن نتوقف عن قتل الشرير في نهاية القصة. أن نمنح القوة شيئًا من المنطق والإنصاف والعقل.
ماتت حميدة في الرواية فقال الشيخ درويش الذاهل عن الدنيا:
" ولكل شيء نهاية يعني End"
بينما مات عباس الحلو في الرواية، فقال الشيخ درويش بعد مرور الوقت ونسيان الناس لحكايته: "وما سمي الإنسان إلا لنسيه/ ولا القلب إلا لأنه يتقلب".
فتجهم وجه عم كامل، وانطفأ لونه واغرورقت عيناه، ولكن الشيخ درويش هز منكبيه استهانة، وقال ولا تزال عيناه شاخصتين إلى السقف: "من مات عشقًا فليمت كمدًا/ لا خير في عشق بلا موت".
اقرأ/ي أيضًا:
فلسطين والسينما المصرية.. حضور نادر
أشرار العالم الجدد