هنا مجموعة من القصص القصيرة للكاتب الأمريكي ستيڤن كينج، صاحب روايات "الشيء" و"البريق" و"الهارب". تكمن أهمية كتابات كينج في براعته الفائقة في تأليف حبكات مؤثرة فكريًّا وعاطفيًّا، تستفيد دومًا من مخاوف البشر التي لا تعرف نهاية أو حدودًا.
الجانب الآخر من الضَّباب
عندما خطا پيت چيكبز إلى الخارج، وجدَ أنَّ ضبابًا ابتلعَ منزله بأكمله، ولم يَعُد يرى إلَّا ستارًا أبيض يُحيط به من كلِّ اتجاه، وولَّد فيه هذا شعورًا غريبًا كما لو أنه آخِر بشريٍّ حيٍّ على وجه الأرض.
أحسَّ پيت فجأة بالدُّوار وبمعدته تضطرب، كأنه يقف في مصعدٍ يَسقُط بسرعةٍ بالغة، ولكن سرعان ما راحَ هذا الإحساس، وواصلَ پيت السَّير. بدأ الضَّباب ينقشع، وعندئذٍ اتَّسعت عينا پيت بدهشةٍ وخوفٍ خالصيْن.
إنه في قلب مدينةٍ ما، لكن المشكلة أنَّ أقرب مدينةٍ تَبعُد أربعين ميلًا عن منزله!
ويا لها من مدينةٍ لم يرَ لها مثيلًا قَطُّ!
حوله مبانٍ شاهقة أنيقة التَّصميم، ذات قممٍ تبدو كأنما تَبلُغ عنان السَّماء، فيما يتحرَّك النَّاس على سيورٍ نقَّالة. على حجر أساس إحدى ناطحات السَّحاب قرأ پيت تاريخ (17 نيسان/إبريل 2007). لقد انتقلَ -بطريقةٍ ما- إلى المستقبل، ولكن كيف؟
شعرَ پيت فجأةً برُعبٍ عارم لم يختبر مثله في حياته.
إنه لا ينتمي إلى هذا الزَّمن ولا يُمكنه البقاء فيه، وهكذا هرعَ عائدًا إلى الضَّباب الذي بدأ ينجلي تمامًا. لم يتوقَّف حين ناداه شرطيٌّ غاضب يرتدي زيًّا رسميًّا غريب الشكل، ولم يتوقَّف حين كادَت تصدمه تلك السيَّارات العجيبة المنطلقة على ارتفاع ستِّ بوصاتٍ في الهواء. لم يتوقَّف حتى بلغَ الضَّباب من جديد، وسرعان ما تلاشى كلُّ شيءٍ من حوله باستثناء ستار الضَّباب الأبيض.
ثم عاودَه الشعور إيَّاه، الشُّعور بالسُّقوط... ثم انجلى الضَّباب مجدَّدًا.
وبدا أنه عادَ إلى منزله.
وعندها دوَّت الصَّرخة التي كادَت تصمُّ أذنيْه، فالتفتَ ليرى ديناصورًا من حقبةٍ ما من قبل التاريخ يندفع نحوه وقد لاحَت في عينيه الخرزيَّتيْن الصَّغيرتيْن الرَّغبة في القتل.
هكذا، مذعورًا، هرعَ پيت إلى قلب الضَّباب من جديد.
في المرَّة التَّالية عندما يحتشد الضَّباب حولك، وتسمع خُطوات أقدامٍ عَجولًا تَركُض هنا وهناك في قلب البياض السَّرمدي، أرجو أن تُنادي صاحبها. إنه پيت چيكبز الذي ما زالَ يُحاوِل العثور على جانبه من الضَّباب.
فلتُساعِد الرَّجل المسكين من فضلك.
يجب أن أخرج من هنا!
- "ماذا أفعل هنا؟".
يُدوِّي الخاطر في رأسي فجأةً، وأشعرُ بخوفٍ شديد يغمرني. لا أذكرُ أيَّ شيءٍ على الإطلاق، ولكن هأنذا أعملُ على خطِّ تجميع في مصنعٍ ما. كلُّ ما أعرفه أنَّ اسمي داني فيلپس، كأني أفقتُ لتوِّي من غفوةٍ طويلة. ثمَّة حرس كثيرون يحمل كلٌّ منهم سلاحًا وتبدو على وجوههم الجدِّيَّة، وآخَرون يعملون حولي بادين كالزومبي، وكالمساجين.
لكن كلَّ هذا لا يهمُّ. المهمُّ أنه يجب أن أعرف مَن أنا وماذا أفعلُ.
يجب أن أخرج من هنا!
أتحرَّكُ نحو باب الخروج الذي لمحته، فيصيح أحد الحرس آمرًا إياي بالعودة إلى مكاني.
أنطلقُ عبر المكان متفاديًا حارسًا آخَر وأخرجُ من الباب، فأسمعُ أصوات أسلحتهم وأعرفُ أنهم يُطلقون عليَّ النار، لكن خاطرًا واحدًا يظلُّ مسيطرًا على تفكيري: يجب أن أخرج من هنا.
تسدُّ مجموعةٌ أخرى من الحرس الباب الآخَر المواجه، ويبدو أني حوصرتُ تمامًا، لولا أنني ألمحُ رافعةً تتحرَّك إلى أسفل، فأتعلَّقُ بها وأهبطُ مسافة 300 قدمٍ إلى مستوًى آخَر من البناية التي تحتويني سجينًا. لكن لا فائدة من هذا، فثمَّة حارس آخر هناك يُطلِق عليَّ ناره، وأشعرُ بالضَّعف والدُّوار، وأهوي في بئرٍ مظلمة عميقة.
*
رفعَ أحد الحرس قبَّعته وحكَّ رأسه وهو يُخاطِب زميله قائلًا: "لا أدري يا چو، لا أدري حقًّا. التَّقدُّم شيء عظيم، لا يُمكنني إنكار هذا، وهذا المودِل X-238 -أو داني فيلپس كما نُسمِّيه- ممتاز بالفعل، لكن جنونًا يُصيبه أحيانًا ويبدو كأنه يبحث عن شيءٍ ما، شيء يكاد يكون بشريًّا. لا أدري".
وتراجعَ بضع خطواتٍ إلى الوراء ليُفسِح الطَّريق لشاحنةٍ تحمل اسم مصنع الروبوتات بحروفٍ نضيدة كبيرة.
*
بعد أسبوعيْن عادَ داني فيلپس لممارسة عمله الروتيني بنظرةٍ خاوية في عينيه، قبل أن...
... تلوح نظرة وعيٍ وإدراكٍ في العينيْن فجأةً ويغمره الخاطر الوحيد: يجب أن أخرج من هنا!
چوناثن والسَّاحرات
يُحكى أنَّ فتًى اسمه چوناثن كان ذكيًّا ووسيمًا وشديد الشَّجاعة، لكنه ابن الإسكاف الفقير، وقد جاءَ يومٌ قال فيه أبوه: "چوناثن يا ولدي، لقد أصبحت كبيرًا بما فيه الكفاية، وعليك أن ترحل وتسعى لبناء مستقبلك".
ولأن چوناثن تمتَّع بالذَّكاء كما ذكرنا، فقد فكَّر أنه يَجدُر به أن يذهب إلى الملك ويطلب منه عملًا، وهكذا غادرَ دار أبيه.
في طريقه التقى أرنبًا هو في الحقيقة جنِّيَّة متنكِّرة، وفي هيئتها تلك طاردَها الصيَّادون، فوثبَت بين ذراعَي چوناثن واندسَّت بينهما، وعندما اقتربوا أشارَ چوناثن في اتِّجاهٍ آخَر هاتفًا: "من هنا! رأيتُ الأرنب يجري من هنا!".
وبعد أن اختفى الصيَّادون تخلَّت الجنِّيَّة عن هيئة الأرنب، وقالت له: "لقد ساعدتني، ولذا سألبِّي لك ثلاث أمانٍ، فماذا تَطلُب؟".
لكن الفتى لم يستطِع التَّفكير في شيء، فوافقَت الجنِّيَّة على أن تُحقِّق له الأماني الثَّلاث متى شاءَ.
وهكذا واصلَ چوناثن السَّير إلى أن بلغَ المملكة دون أن تُواجِهه أيُّ مشكلات، وهناك قصدَ قصر الملك ليَطلُب منه عملًا، وإن تصادفَ أنه وجدَ الملك في مزاجٍ بالغ السُّوء في ذلك اليوم، ومن ثمَّ أفرغَ استياءه في وجه چوناثن بقوله: "نعم، عندي لك عمل. على الجبل البعيد تعيش ثلاث ساحرات. إذا استطعت قتلهن فسأهبُ لك خمسة آلاف قطعةٍ من العُملة، وإذا لم تفعل فسأقطعُ رأسك! أمامك عشرون يومًا".
ثم صرفَ الفتى الذي قال لنفسه إنه سيُحاوِل، وتذكَّر الأماني الثَّلاث التي منحته إيَّاها الجنِّيَّة، وعليه بدأ يشقُّ طريقه إلى الجبل البعيد.
*
بلغَ چوناثن الجبل، وكان على وشك أن يستخدم أمنيته الأولى ويَطلُب خنجرًا يَقتُل به السَّاحرات، غير أنه سمعَ صوتًا يتردَّد في أُذنه قائلًا: "السَّاحرة الأولى لا تنفذ من جسدها النِّصال، والثَّانية لا تنفذ من جسدها النِّصال ولا يُمكن خنقها، والثَّالثة لا تنفذ من جسدها النِّصال ولا يُمكن خنقها أو سحقها، بالإضافة إلى أنها خفيَّة عن الأعيُن".
نظرَ چوناثن حوله فلم يرَ أحدًا، لكنه تذكَّر الجنِّيَّة وخمَّن أنها مَن همسَ له بتلك المعلومات، فابتسمَ.
ثم بدأ يُفتِّش عن السَّاحرة الأولى، وبعد بحثٍ طويل عثرَ عليها أخيرًا في كهفٍ بالقُرب من سفح الجبل، ورآها عجوزًا شمطاء خبيثة الشَّكل والرَّائحة.
تذكَّر چوناثن كلمات الجنِّيَّة، وقبل أن تستطيع السَّاحرة أن تفعل شيئًا باستثناء تسليط نظراتها القبيحة عليه، كان چوناثن قد تمنَّى أن تختنق السَّاحرة، وفي لمح البصر سقطَت مختنقةً فعلًا.
وبدأ چوناثن يصعد الجبل بحثًا عن السَّاحرة الثَّانية، وفي كهفٍ أعلى عثرَ عليها.بدأ يتمنَّى أن تختنق هذه بدورها، لكنه تذكَّر أنَّ السَّاحرة الثَّانية لا يُمكن أن تموت خنقًا، وقبل أن تفعل هي شيئًا سوى أن تَرمُقه بنظراتها القبيحة، تمنَّى أن تُسحَق، وفي لمح البصر تحطَّم جسدها تمامًا.
ما عليه الآن إلَّا أن يَقتُل السَّاحرة الثَّالثة لينال مكافأته من الملك، لكنه ظلَّ يتساءَل في طريقه إلى أعلى عن الطَّريقة التي يُمكن أن يَقتُلها بها، بما أنَّ النِّصال لا تخترق جسدها ولا يُمكن أن تموت خنقًا أو سحقًا، والأدهى أنه لا يستطيع رؤيتها.
ثم خطرَت له فكرةٌ رائعة.
بلغَ چوناثن الكهف الثَّالث، وعند بابه كمنَ منتظرًا حتى سمعَ خُطوات السَّاحرة، فالتقطَ حجرًا كبيرًا وتمنَّى أمنيته الأخيرة.
تمنَّى چوناثن أن تتحوَّل السَّاحرة إلى امرأةٍ عاديَّة، وفي لمح البصر برزَت أمام عينيْه، فهوى على رأسها بالحجر وسقطَت قتيلةً.
وهكذا عادَ إلى المملكة ونالَ مكافأته من الملك وعاشَ في تباتٍ ونبات!
على سبيل الاحتياط
دعني أقل لك إنَّ هذه ليست أداةً تُلهِم بكتابة أغاني المهد. أتطلَّعُ إلى بلطة الجليد -تلك التي يستخدمونها في تسلُّق جبال الجليد- ولا أجدُ نفسي أفكِّرُ في شيءٍ إلَّا القتل. أحملها إلى المرأب وألتقطُ قطعةً سميكةً من الخشب، وأهوي عليها بطرف البلطة المستدَق محاولًا ألَّا أتخيَّلُ السُّهولة التي يُمكن أن يخترق بها هذا الطَّرف ذاته جمجمةً بشرَّيةً حتى ينفذ إلى الخلايا الرَّماديَّة تحتها. أسمعُ صوت الضَّربة الثَّابت المُرضي، فأفكِّرُ أنَّ الأدوات من عيِّنة أجهزة الصَّدمة الكهربيَّة وعُلب رذاذ الفلفل ونجوم النينچا المعروضة في نافذة محلِّ الرُّهونات القريب، تبدو كلُعب الأطفال مقارنةً بهذه. يُمكنك أن تُحدِث كثيرًا من الأذى بهذه الأداة الصَّغيرة، أذى حقيقيًّا مروِّعًا.
الطَّرف المستدَق مشحوذٌ بطول الرَّأس ومدبَّب، ثم إنه مسنَّن من أسفل، غالبًا لمنعه من الانزلاق بمجرَّد أن يخترق الجليد. أنظرُ إلى الشُّقوق التي أحدثَتها البلطة في الخشب، فلا أستطيعُ منع نفسي من تخيُّلها مغروزةً في جسدٍ بشري، وأظلُّ أتصوَّرُ البلطة وهي تهوي على صدرٍ أو بطنٍ أو رأس، أظلُّ أتخيَّلها مدفونةً عن آخِرها في مؤخِّرة عنقٍ أو محجر عين.
تبًّا! لا شكَّ أني أمريكيٌّ مريض حقًّا.
وقد لا أكون كذلك، فككثيرٍ من الأدوات الأخرى التي تَخطُر على العقل -المطارق، المفكَّات، الحفَّارات، المثاقب، الأزاميل- لبلطة الجليد هذه نوعٌ من السِّحر الجهنَّمي، نوعٌ من جمالٍ كئيب ذي صلابةٍ لا تُضاهى، يكاد لا يفهمه سوى مُصابي الاضطرابات العصبيَّة. ولكن تطلَّع إليها وسترى أنَّ لا جزءَ منها لا يُمكن استخدامه، بدايةً من القاعدة المنحوتة الخشنة، مرورًا بالحزام الجلديِّ الذي يُلَفُّ حول المعصم، ونهايةً بطرفها المدبَّب. لستُ واثقًا بكنه الشَّيء الموجود على الطرف الآخَر، الشَّيء الذي يُشبِه فتَّاحة الزُّجاجات، ولو أني متأكِّد أنَّ له غرضًا واضحًا يفهمه ويستغلُّه مَن يتمتَّعون بالعزم الكافي (والجنون الكافي في الواقع) للمخاطرة بتسلُّق جبال الجليد.
يدفعني هذا إلى استنتاجٍ جديد، فما أشعرُ به حقًّا وأنا أحملُ هذه البلطة ليس إمكانيَّة القتل بها بقدر ما هو جاذبيَّة الأشياء الفانية. إنها تُحدِّثني عن ضعف اللَّحم البشري، ولكن أيضًا عن مرونة العقل البشري وقوَّته.
أضعها على مكتبي وأسمعها تهمس لي: "إذا احتجت إليَّ فستجدني. إذا أردت أن تَشنُق نفسك ويظلَّ جسدك الثَّقيل معلَّقًا بي فلن أخذلك، بشرط أن تغرزني جيِّدًا".
لستُ أخطِّطُ للذَّهاب في رحلة تسلُّق لأن الدُّوار ينتابني من مجرَّد صعود السَّلالم، لكني أحتفظُ رغم ذلك بالبلطة تحت فراشي كلَّ ليلة.
ولِمَ لا؟ لا أحد يدري متى قد يحتاج إلى أداةٍ فعَّالة كهذه، أداةٍ قد تصنع الفرق بين الحياة والموت.