يعتبر سجن العقرب، أو 992 طرة شديد الحراسة، آخر العنقود في سلسلة سجون طرة الشهيرة، وموقعه في مؤخرة السجون، جعله مميزًا فهو محاط بسور يبلغ ارتفاعه سبعة أمتار وتقوم بمهمة التأمين بوابات مصفحة من الداخل والخارج، كما أن مكاتب الضباط تقع بالكامل خلف الحواجز والقضبان الحديدية.
دور الأطباء في العقرب، وغيره من السجون "سيئة السمعة"، هو الإبقاء على حياة المُعذّبين فقط، حتى يكونوا على استعداد لجلسة تعذيب أخرى
واقترحت فكرة سلسلة السجون شديدة الحراسة مجموعة من ضباط الشرطة عقب عودتهم من بعثة تدريبية في الولايات المتحدة الأمريكية، واعتبرتها وزارة الداخلية فكرة خلاقة وكافية لسد ما اعتبرته عجزًا في سياستها مع الجماعات المسلحة بشكل خاص، في عام 1991 بدأ وزير الداخلية السابق حسن الألفي ومجموعة من مساعديه -من بينهم اللواء حبيب العادلي مساعد الوزير لشئون أمن الدولة آنذاك- في تجهيز هذه الأفكار الأمريكية ووضعها علي أولوية التنفيذ الفوري، الذي استغرق بناؤه عامين، ليتم الانتهاء منه في 30 مايو 1993، ويتم افتتاحه رسميًا بتاريخ 26 يونيو 1993 بحضور مساعد وزير الداخلية حبيب العادلي.
لماذا شديد الحراسة إذن؟
شادي، معتقلٌ سابق بسجن العقرب على خلفية إحدى القضايا البارزة بعد الانقلاب العسكري في مصر، حاولنا التواصل معه لمعرفة ما يدور داخل هذا السجن، بعيدًا عن التهويل لبعض الأخبار الواردة من هُناك، وبعيدًا عن البيانات الرسمية عن السجن التي تنفيها الوقائع كُل مرة.
وطبقًا لشهادته التي أرسلها لنا، فإنه يُرجع تسمية السجن بشديد الحراسة، لأنك لن تصل إلى الزنزانة التي ستقضي فيها فترة اعتقالك، إلا بعد المرور بسبعة أبوابٍ مصفحة.
في البداية -حسب شادي- يُسلمك التشكيل القادم معك من مقر احتجازك السابق إلى ضابط المباحث، ثم يكون هناك الاستقبال، أو الحفلة، كما هو مُتعارف عليها داخل السجون، فالضيف الجديد، لابد له من مراسم استقبال واحتفال، تكون موجعة ومؤلمة بعض الشيء، وكلٌ على حسب صفته، وسبب قدومه، وبالتأكيد إذا كانت هذه أول حفلاتك في السجون المصرية فلن تفهم سبب الضرب المبرح الذي تتعرض له.
هدف هذه الحفلة، يعتبره شادي "كسر عين" حتى تكون إقامتك هادئة بالنسبة لهم، ولا تطالب بأي حقوق أو لوائح، فإذا كنت تعرّضت لكل هذا الضرب والإهانة فور دخولك، فماذا سيحدث لك لو طالبت بحقوقك؟
مقر الإقامة الجديد
وصلت الزنزانة؟ أهلًا وسهلًا بك
هي غُرفة لا تزيد مساحتها على تسعة أمتار مربعة، على يمينك حمام، وبجواره حوض صغير للغاية، لا تنزعج، فهُناك فتحة للتهوية، لكن للأسف في كثير من الأحيان تجدها مسدودة من الأعلى، هناك أيضًا شباك كبير، يستخدمه الضباط ومساعدوهم في التصنت على المعتقلين وهم داخل الزنازين لسماع حديث ليلهم، ومن يقودهم للتمرد والإضراب، ولا تحتوي تِلك الغرفة، على أي سرير للنوم، وفي أي شيء يحتاج المعتقل للسرير؟ -يتساءل شادي- فالمسجون يدخل ومعه بطانيتان، واحدة للنوم، والأخرى للتغطية.
إضراب!
هذه الإجراءات التعسفية والمنع من الحقوق الإنسانية، تدفع المعتقلين إلى الإضراب للتعبير عن اعتراضهم على هذا المنهج في التعامل معهم، وصل الأمر مرة، إلى إضراب مريض عن المياه لمدة يومين، وصل به الإضراب إلى مشارفة الموت، وقطع النفس، وذلك اعتراضًا على عدم إحضار أطباء للكشف على المرضى.
ضباط السجن أو موفدو مكتب الوزير، كان تعاملهم مع الإضراب دائمًا بالوعود بتحسين الوضع، والمعاملة مقابل فك الإضراب، لكن فور خروجهم، تنهال إجراءات تجريد الزنازين من الأدوية الطعام والملابس وأدوات التنظيف.
وحين لا ينصاع المعتقلون لهذه الوعود، وتلك الإجراءات، تبدأ الإدارة في التصعيد أكثر فأكثر، فمن تجريد المعتقلين من ملابسهم في الشتاء، إلى اقتحام القوات الخاصة للزنازين بالبنادق والخرطوش، وإطلاق رصاصات الصوت، التي دائمًا ما تصيب المعتقلين بأذى شديد، معتقل أصبح لا يرى بإحدى عينيه نتيجة شظايا طلقة صوت تم إطلاقها داخل الزنانة.
كُل هذا تحت إشراف مساعد وزير الداخلية محمد راتب، ومأمور السجن، ورئيس المباحث تامر جاد.
ملائكة الرحمة .. وملائكة العذاب
دور الأطباء في العقرب، وغيره من السجون "سيئة السمعة"، هو الإبقاء على حياة المُعذّبين فقط، حتى يكونوا على استعداد لجلسة تعذيب أخرى، هناك أيضًا مستوى أفضل في العلاج، وهو علاج من لديهم عرض على النيابات والمحاكم، فيكون هدف الأطباء هو إزالة آثار التعذيب من على جسد السجين.
ويتذكّر شادي أولئك الذين دخلوا عليهم الزنزانة فجأة لعلاجهم، فقط لأن قضيتهم تم تحويلها للمحكمة، وسيتم عرضهم القضائي قريبًا، وسترد صورهم في كُل وسائل الإعلام.
أما من لم يسعفهم الحظ في العرض على القضاء سريعًا، فلا ينامون الليل مُنتظرين قطع ستار الليل بهراوات الأمن، فلا يتوقّع أحدهم أن يذهب إلى الحمام دون أن يتعرّض للضرب والإهانة، على سبيل المثال.
أحدهم في سجن العازولي، انتهت به مشادة كلامية مع أحد الضباط بتعليقه على شجرة، وجرده من ملابسه، ودهن جسده بـ "المربى"، وسلط عليه كشافين إضاءة ليلًا، وتصوّر أنت حجم الحشرات المُجتمعة عليه، يقول شادي.
أما الأمراض الجلدية التي تنتج عن هكذا أفعال، فعلاجها من الرفاهية الزائدة عن احتياجاتك داخل السجن.
الموت البطيء
خالد محمد عبد الرؤوف طالب بكلية إعلام جامعة القاهرة، يعمل مصورًا صحفيًا، اعتقل في الثاني من يناير عام 2014، واقتيد إلى مقر أمن الدولة الرئيسي، تعرّض فيه لشتى أنواع التعذيب، ما أدى إلى حدوث شرخين فى عظمة الترقوة وخلع فى كتفه، نقل بعد ذلك إلى سجن العقرب، ولم تكن أسرته على علمٍ بمكان احتجازه إلا بعد ثمانية عشر يومًا من اختفائه.
تُحدِّثنا أسرة خالد، الذي مازال يقبع داخل العقرب حتى الآن، أنه عند رؤيتهم له للمرة الأولى بدا عليه آثار التعذيب والإنهاك، ملابسه كانت ملطخّة بالدماء الغزيرة، برأسه تجمعات دموية نتيجة الضرب المبرح على رأسه.
شقيق خالد، أخبرنا عن إضراب أخيه عن الطعام لمدة تجاوزت المائة وعشرين يومًا، اعتراضًا على ما يتعرّض له، لتستخدم معه إدارة السجن كافة أساليب الضغط والتعذيب ضده لفك الإضراب، ليجبروه على إمضاء محضرٍ لفك الإضراب.
حالة خالد الصحية، تقول أسرته، أنها تتدهور يومًا بعد الآخر، وقد فقد من وزنه ثلاثين كيلوجرامًا خلال فترة اعتقاله، كما أصبح يعاني من أمراضٍ في المعدة والتهابٍ شديد في المريئ وقيئ مستمر، ما يجعله يتعرّض للإغماء دائمًا، إضافةً لما يعانيه من مشاكل صحية في مفصل الركبة وآلام فى العظم.
كتائب حلوان، تِلك القضية التي أثارت الجدل في جميع الأوساط في مصر، تم الزج باسم خالد ضمن المتهمين فيها، رغم وقوع أحداثها بعد اعتقاله بثمانية أشهر، بعدها كان على موعدٍ مع صنفٍ جديد من أصناف التنكيل داخل السجن، فتم وضعه فى زنزانة تأديبية، بصحبة معتقلين آخرين تبلغ مساحتها مترين مربعين فقط، كما جرى تجريده من كافة متعلقاته الشخصية ومنع دخول اﻷدوية له مدة خمسة أشهر أخرى، لتتدهور حالته الصحية أكثر فأكثر.
إنهم حقًا يريدون إنهاء حياته، تقول أسرة خالد.
السجون لا تخضع للرقابة
رصدنا الكثير من الانتهاكات التي تحدث داخل العقرب، من إهانةٍ لفظية وبدنية، وتعذيب نفسي وجسدي، ومعاملةٍ غير آدمية للمعتقلين، ومنعٍ للأهالي من الزيارة، يتحدث محمد لطفي، المدير التنفيذي للمفوضية المصرية للحقوق والحريات.
سجن العقرب وأمثاله، لا يخضعُ لأي شكلٍ من أشكال الرقابة والتفتيش من قِبل منظمات المجتمع المدني
ثُم يتابع، سجن العقرب وأمثاله، لا يخضعُ لأي شكلٍ من أشكال الرقابة والتفتيش من قِبل منظمات المجتمع المدني، طالبنا علانية أكثر من مرة بالسماح لنا بزيارة السجون فكان الرد دائمًا، بأنه غير مسموح!
هو سجن غير عادي، تضع فيه السلطة من ترى من وجهة نظرها أنه خطرٌ على الأمن القومي، يكون السجن مسرحًا للانتهاكات من تعذيبٍ وتجريدٍ للأمتعة والأدوات، لو طالب المعتقلون فقط بتحسين الوضع القائم، فيتم التنكيل بهم أكثر، فيكون الخيار بين التنكيل، والأكثر تنكيلًا.
ما يحدث داخل السجن من ممارساتٍ قمعية، هو انتهاكٌ للقانون والدستور المصري، ما يدفع الكثيرين لعدم احترام هذا الدستور، ويطعن دولة القانون في مقتل.
وإذا كانت الدولة أو السلطة لا تحترم القانون ولا تقدّره فمن سيفعل؟
وبحسب متخصصين نفسيين واجتماعيين، فإن ما تقوم به الدولة من إجراءات قمعية، لا ينتج سوى مواطن ترّسخت لديه قناعات في عدم الإيمان بالتغيير السلمي، ما يؤكد أن القمع لا يُنتج سوى الدمار للمجتمع.
اقرأ/ي أيضًا: