اللاشيء، اللاحياة، واللا إنسانية. مفرداتٌ فرضت نفسها على سكان ما بات يعرف بحي الكرفانات في خُزاعة شرقي خان يونس جنوب قطاع غزة، منذُ ما يزيدُ عن عامٍ وهم ينتظرون بأجساد أطفالهم النحيلة إعمارًا لا يزال يتلكأُ. تدقُ ساعةَ الصِفر وتقرُر الدخول إلى تلك البقعة الضيقة كضيق حال أهلها الذين لا يشبهون إلا الوجع الذي سكنهم، بعد أن فقدوا منازلهم بفعل الحرب.
والخوف هو الشعور الأول الذي يسيطر عليك في تلك اللحظات، فتخاف أن تداهمَ مياه الأمطار التي جاءت مبكرةً هذا العام أكشاكهُم المصنوعة من الصفيح، فيلتهمُ المرضُ ومن بعدهِ الموت صغارهم قبل كبارهم، لأن عوامل الموت هناك كثيرة. حي الكرفانات عنوان لما يشبهُ البيوتَ مجازًا، متراصةٌ بجوار بعضها، يميزها التهالك، ويلفها أكياس النايلون من كل جانب، واحتمال غرقها وسقوطها على رؤوس المستورين فيها يبقى قائمًا بأي لحظة.
وفي تلك المساحة التعيسة، تجلس العجوز وصفية قديح على ما يشبه الفراش، تجمع بين أحضانها أحفادها الصغار الذين ترتجف شفاههم من فرط البرودة، وكمية المياه المنهمرة على أجسادهم الغضة، في محاولة منها لمنحهم قليلاً من الدفء، وعلى الجانب الأخر من ذات الكرفان الذي لا تتجاوز مساحته بضع أمتار، ينهمك زوجها واثنان من أبنائها الذكور بمحاصرة المياه التي تدلف من كل جانب.
فصل الشتاء بات يمثل مساحة للحزن لدى سكان حي الكرفانات على عكس ما جرت عليه العادة في استقبال هذا الفصل
تقول وصفية لـ "ألترا صوت": "زي ما أنتى شايفة، سنتين وحالنا ما تغير عليه شيء يّما، كل يومين بأخذ ولاد ولادي على الحكمة (العيادة الصحية)، ومش ملاحقة أدوية ومصاريف". الزائرون لهذا الحي من فترة لأخرى لا يمنحون سكانه إلا قليلاً من المساعدات العينية (لا تتجاوز بعض الفرشات، وأكياس النايلون لتغليف كرفاناتهم)، متناسين بذلك الوجع والألم الذي يضربهم ليل نهار بفعل تأخر عملية إعادة إعمار منازلهم.
إعمار يضل الطريق
وتتابع وصفية "ما بدنا معونات، ياخدوا كل شيء بس يبنولنا بيوتنا"، متسائلة بغضب عن السبب وراء تأخر عملية الإعمار الذي لا يزال يضل الطريق ولا يعرف من أي يدخل لغزة، محملة الفصائل الفلسطينية والحكومتين (غزة والضفة) المسئولية عن حياة كل من يعيش في هذا الحي.
فصل الشتاء بات يمثل مساحة للحزن لدى سكان حي الكرفانات على عكس ما جرت عليه العادة في استقبال هذا الفصل، حيث كشفت الأمطار عورات المانحين الذين تعهدوا بإرسال نحو خمسة مليارات دولار لغزة عقب انتهاء العدوان قبل ما يزيد عن العام.
إقرأ/ي أيضًا: نكهة سورية "حلوة ومرة" في غزة
الاستعداد لاستقبال المنخفضات الجوية الأشد قسوة، دفع أم عامر النجار لوضع خرق من القماش على نوافذ منزلها المتنقل (الكرفان) الذي تسكنه برفقه والدة زوجها وأربعة من أبنائها، الذين أثقلت لباسهم لتحمي أجسادهم من موجات البرد القارس.
تحاول الأم (37عامًا) أن تدخل الدف إليهم، فتشعل موقد النار، تجلس حولهم، وهي توصيهم بعدم إسناد ظهورهم لجدار الكرفان، لأن ذلك سيشعرهم بمزيد من الوجع والقشعريرة.
تقول الأم: "ننتظر تحركًا جديًا لإنقاذ حياتنا، قبل عام فقدت بعض العائلات أطفالها من شدة البرد، قلبي يعتصره الألم كلما استيقظت على أبنائي وهم يصرخون بفعل الأمطار التي تهطل عليهم، وفي كل لحظة أتوقع أن أفقد أي منهم".
غدرتهم حبات المطر
أحد أطفالها ويسمى يامن (8 سنوات) لم يتوقف عن سؤالنا طوال حديثنا لأمه متي راح تبنوا البيت؟!، فهو الأخر ليس فرحاً بالأمطار التي عرت أجسادهم كما الحرب بكل قسوتها، بعد أن داهمت المياه فراشهم، وغدرت بهم حبات المطر. عائلة النجار واحدة من بين مئات العائلات التي أصبحت بلا مأوى، بفعل تدمير آلة الحرب الإسرائيلية لمنازلهم خلال الحرب الثالثة، ويواجهون لوحدهم تلك العواصف الباردة، فكل الحلول المؤقتة فشلت في التخفيف من آلامهم. وما يزيد الطين بلة هو التصميم الهندسي للكرفانات، فتنظيم ألواح "الزينقو" ليست بالشكل المطلوب، ومن الداخل فهي مكسوة بمادة الجبس التي سرعان ما تذوب بفعل مياه الأمطار المتدفقة، وبالمجمل فهي غير صالحة للعيش الأدمي كما يقول أبوعبد الله النجار، الذي التقيناه وهو يحاول وضع أكياس من الرمل لسد الثغرات التي تتسرب منها المياه.
ويواصل: "نحن أمام كارثة حقيقة، أنظري لهذا الكرفان تعيش فيه عائلة مكونة من 12 فردًا من بينهم نساء وأطفال، وذاك يأوي سيدة كفيفة وابنتها الوحيدة، والحبل على الجرار، الكل هنا مستاء، ولا أحد يحرك ساكنًا"، مشبهًا العيش في هذه المنازل المتنقلة بالثوب المُرقّع.
حي الكرفانات في خزاعة التي كان لها نصيب الأسد ضمن العملية البربرية على غزة صيف العام الماضي ليس الوحيد الذي يعيش حكاية الألم، فبيت حانون، وعزبة عبد ربة، ومنطقة أبراج الندى شمالًا(بيت حانون)، وحي الشجاعية شرقًا، جميعها أحياء تضم الآلف الأسر النازحة، والتي مر عليها صيفين وشتائيين، لكن حالها لم يتغير عليه شيء سوى الأسوأ، فيما يدير المجتمع الدولي ظهره طبعًا.
إقرأ/ي أيضًا: شباب غزة.. بدنا نشوف الضفة!
الشتاء في غزة