يحاجج بيرني ساندرز أقرانه من السياسيين في الحزبين الديمقراطي والجمهوري الأمريكيين بالقول: إن تقدم أمريكا في العقود الماضية مرده إلى توفير تعليم مجاني لكل الناس حتى المرحلة الثانوية. وحيث إن مستوى التعليم قد تقدم كثيرًا في العالم، ولم يعد خريج الثانوية العامة يُعد بين المتعلمين، فإنه من الواجب على السلطة الفدرالية وحكومات الولايات أن توفر تعليمًا جامعيًا مجانيًا للأمريكيين ليتسنى لهذا البلد أن يبقى في الصدراة.
لا خيار أمام الأجيال الجديدة يتمثل بترك التعليم والانصراف عنه. إذ إن حيازة شهادة جامعية اليوم، تقترب من أن تكون قرينة لشهادة الميلاد أو الجنسية
لا أدري إن كانت حجة ساندرز تنطلق من بحث دقيق وشامل وتستند إلى دراسات معمقة، أو أنها مجرد ملاحظة لامعة. لكنني أملك أسبابًا كثيرة للموافقة عليها. على الأقل في شقها الأول المتعلق بأهمية توفير التعليم المجاني حتى انتهاء المرحلة الثانوية.
اقرأ/ي أيضًا: اللجوء الكبير .. جسر بين ضفتي المتوسط
إنما ورغم هذه الموافقة غير المشروطة، تحضرني ملاحظات عديدة بشأن الأدوار والفوائد المتوخاة من توفير تعليم مجاني جامعي لكل الأمريكيين.
في الأساس، ومن حيث المبدأ، لا خيار أمام الأجيال الجديدة يتمثل بترك التعليم والانصراف عنه. إذ إن حيازة شهادة جامعية اليوم، تقترب من أن تكون قرينة لشهادة الميلاد أو الجنسية. فمن دون حيازتها لن يكون بإمكان المرء أن يستوي مواطنًا كامل الصفات، يتمتع بحقوقه ويؤدي واجباته. ويكاد الزمن المعاصر يجعل من فكرة برتراند راسل حول ثقافة العناية بالأبناء التي باتت منذ قرون ثقافة مكلفة وضرورية في الوقت نفسه ثقيلة الوطأة ودائمة الحضور. فالابن أو الابنة لا يصبح مستقلًا بمجرد أن يبلغ أشده، كما هي حال الكائنات الأخرى.
وزمن العناية التي يحتاجها الكائن البشري طويل ومديد وباهظ. وطوال هذه الفترة التي باتت تعادل ربع عمر الكائن البشري، لا يمتلك الابن كامل حقوقه: حق الانتخاب موقوف على الراشدين، وحق الترشح إلى مناصب حكومية موقوف على الأسن منهم، وحق الزواج والإنجاب مشروط ومرهون باستقلال مالي دون تحققه صعوبات وعقبات لا تحصى. والحال، فإن ضرورة التعليم الجامعي في هذا النطاق تبدو كما لو أنها استكمالًا للعناية بالأبناء أكثر منها وسيلة للترقي الاجتماعي وتقدم المجتمعات وازدهارها، من خلال الاستثمار في الموارد البشرية.
النجاح المعاصر لا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتعليم، ويبدو أنه خرج إلى غير رجعة من كنف المؤسسات التعليمية الكبرى، التي شكلت لقرون مصانع إنتاج القادة والأغنياء والمنظورين في المجتمع. وغني عن القول إن التحول الراهن في أدوار الجامعات وخفوت مصادر قوتها وسلطتها، يضرب عصبًا أساسيًا من أعصاب مناعة الدولة الجامعة ومنعتها.
الدولة الجامعة قد تؤمن تعليمًا جامعيًا مجانيًا لكل الناس، وقد تؤمن لهم رعاية صحية مقبولة أيضًا. لكنها لم تعد تملك السيطرة على كل مصادر الثروة والعلم وحتى الاتصال.
يرى بيير بورديو أن سلطة الدولة تتمأسس في الأصل على احتكارها البدائه العامة. تحدد أيام الأعياد، ومناسبات الاحتفال
يرى بيير بورديو أن سلطة الدولة تتمأسس في الأصل على احتكارها البدائه العامة. تحدد أيام الأعياد، ومناسبات الاحتفال، ويحاجج أن أكثر الثوريين جنوحًا نحو الانقلاب على سلطة الدولة، لم يستطيعوا الانقلاب على قدرتها في السيطرة على الوقت. والدولة أيضًا امتلكت لزمن طويل تعريف الأشخاص وفصل المواطن عن السائح واللاجئ كما يرى جورجيو أغامبين. لكن الزمن الراهن يختلف قليلًا. فرغم أن الدولة ما زالت تصدر جوازات السفر والبطاقات الصحية ووثائق الولادة والوفاة، وهذه من أساسيات التواصل في المجتمعات وبين بعضها، إلا أن مستجدات كثيرة طرأت في المجتمعات المتقدمة، باتت تمنع الدولة من بسط سلطانها الحاسم على المجتمع. الهواتف الذكية ليست من إنتاج الدولة، وهذه تلعب أدوارًا متعاظمة، وستتعاظم مع الوقت في تعريف الناس وإحصائهم وقياس أمزجتهم وأهوائهم، ومعرفة مصادر دخلهم وسبل إنفاقهم، فضلًا عن تمكنها من مراقبة رغباتهم وأسرارهم على نحو لم تنجح الدول طوال تاريخها في تحقيقه. شركات السيارات أصبحت قريبة من فرض طرقات بعينها على السائقين للوصول إلى وجهاتهم، وهذه، بالتعاون مع التقنيات الذكية، تحذف من خرائطها المناطق الموسومة بالعنف أو الاكتظاظ، وتدعوك لتجنبها. وسرعان ما تقسم المدن والحواضر إلى مناطق مشمولة بإدراكنا، وأخرى غير مشمولة به، كما لو أنها غير موجودة أصلًا. وهؤلاء الذين يقطنون في هذه المناطق التي تخرج يوما بعد يوم عن مداركنا، وتذهب إلى العتم والمجهول والغامض، وتنسب إلى عالم الجريمة والعنف وانعدام الأمان، هم في الأصل مواطنون، وبعضهم أنهوا دراساتهم الجامعية، وربما يكون معظمهم قد أنهوا دراساتهم الثانوية المجانية. لكن أملهم في أن يدخلوا في العالم المضاء يتضاءل ثانية بعد ثانية ويكادون يتحولون إلى نماذج لليائسين والمتروكين.
اقرأ/ي أيضًا: محمد قبنض.. صورة الساذج الشرير
ثمة أيضًا في هذه التقنيات الحديثة ما ينبئ بالأسوأ. فحتى لو كان المرء يعيش ويعمل في الأمكنة المضاءة من العالم، والتي ما زالت تظهر على الخرائط الإلكترونية. فإن التقدم السريع في هذه التقنيات، وقدرة الشركات التي تبدع هذه التقنيات وتستطيع فرضها على عموم البشر، تجعل من الكسالى قليلًا، أو الملتفتين إلى متعتهم، والذين يقيمون وزنًا للذائذ الحياة الدنيا، عاجزين عن مجاراة التقنيات الحديثة، لأنها تتطلب منهم دوامًا كاملًا يفضلون أن ينفقوه في تحقيق متعتهم أو الاسترخاء على الكنبة بكل بساطة. وتحت وطأة ضراوة هذه التقنيات وتطلبها المتفاقم، تسقط كل يوم فئات جديدة في هوة الأمية التقنية، حتى لو كانوا ممن أنهوا تعليمهم الجامعي. وتقلل حظوظهم في الحصول على وظائف جديدة، أو تغيير أسلوب حياتهم، أو مجرد الاطمئنان إلى ما حققوه ومحاولة التمتع به.
اقرأ/ي أيضًا: