لأسباب واضحة وأخرى مخفية، استحوذت الأجهزة الأمنية المصرية على الموسم الدرامي في رمضان المنقضي، في خطوة رأى البعض أنها تأخرت قليلًا بينما اعتبرها آخرون جاءت لتضع النقاط على الحروف. الحديث هنا لا يتعلّق باستقطاب ما بين الفريقين أصحاب الرأيين، بل هو بالأحرى تأكيد المؤكد في الحالة المصرية، التي تشهد منذ وصول الرئيس الحالي منحى تصاعديًا في أعمال القمع الأمني وإعادة تدوير الفساد السياسي وتدجين النشاطات الثقافية وقصّ ريش كل من يغرّد خارج السرب الرسمي.
لأسباب واضحة وأخرى مخفية، استحوذت الأجهزة الأمنية المصرية على الموسم الدرامي في رمضان المنقضي
مثل كل شيء في مصر، فالبداية دائمًا تكون بالعودة إلى عام 2011. كسرت ثورة 25 يناير عنجهية جهاز الشرطة، وبصورة أقل المؤسسات العسكرية، التي تجعله فوق النقد والنحو والصرف. ومثل أحلام اليقظة الخاطفة، كانت الانتفاضة الشعبية للمصريين الغاضبين ضد تراكمات كثيرة لرجال حبيب العادلي -أطول وزراء الداخلية بقاء في منصبه- فرصة لظهور ضابط الشرطة على الشاشات بهيئته البشرية لا الآلية الملائكية المعتادة التي يوهمون بها المواطنين أنه يتصرّف وفقًا للقانون أو أنهم يعيشون في دولة يحكمها القانون فعلًا، ويحترمهم كمواطنين ويأتي من العدم للقبض على الأشرار وله اسم أنيق مثل "الرائد سمير شكري أكفأ ضابط عندنا في الإدارة يا فندم".
اقرأ/ي أيضًا: مسرح مصر.. "أي كفتة في أي بتنجان"!
رأى المصريون بعضًا من قمة جبل الفساد الذي يرعى فيه هؤلاء الأفراد المتنفذّون بسلطتهم الأمنية (مسلسل "الهروب" لمؤلفه بلال فضل)، إلى السخرية الصريحة منهم (مسلسل "الرجل العنّاب"، وفيلم "أمن دولت"، وبعض حلقات المسلسل الكوميدي "الكبير أوي"). وبالسرعة التي أعادت بها أقسام الشرطة لافتة "الشرطة في خدمة الشعب" إلى المخازن كما كانت، تداركت قيادات الفلول/ النظام الحالي الأمر، ليصير الكلام عن أجهزة الأمن التي تحميهم من التابوهات، واختار الإنتاج الدرامي تمشية الحال والمهادنة من الباب الخلفي بالاتفاق غير المعلن على تلميع ضابط الشرطة من جديد والاحتيال على المنطق بتقديم أجهزة أمنية خاصة لها كل الصلاحيات، لكن سياسة الدولة بريئة منها.
هكذا عندما يأتي ذكر الكيانات الحقيقية مثل الأمن المركزي أو ضباط المباحث، يصحّ تماهي هذا في ذاك، قبل أن يعود المواطن بلا قيمة وتتحوّل كل المسلسلات إلى قصيدة عصماء في مدح رجال الشرطة، فكنت تبكي على مأساة أحمد السقا في "ذهاب وعودة" قبل ثلاثة أعوام بعد اختطاف ابنه وجهود الشرطة لإعادته، قبل أن يطل علينا العام الماضي أمير كرارة وقد حلق لحيته التي تعمّد إطلاقها كلما ظهر بدور البلطجي في المواسم الرمضانية السابقة، ليطل علينا بشارب مخيف وكوميدي في آن على وجه نظيف رائق للضابط البائس سليم الأنصاري الغارق حتى النخاع في مأزق لعين يضاف إلى متاعب عمله اليومي ولا يمنعه من إنقاذ الفتيات من الاغتصاب، لدرجة أن "الأمنجية" المختبئين وراء كثبان اللجان الإلكترونية راحوا يسجّلون تعاطفهم الحاسم مع البطل الذي يمثّلهم! في الموسم الثاني من "كلبش"، تزداد جرعة البؤس التي يعانيها سليم الأنصاري، أو "باشا مصر" كما يطلقون عليه، بعد مقتل زوجته الحامل وشقيقته وشلل والدته على أيدي الإرهابيين، لكنه سيتجاوز صدمته وتختلط بداخله رغبة الانتقام لأسرته بالسعي نحو تحقيق العدل، في مشواره لملاحقة الإرهابيين الأشرار، الذين سيلاحقونه بدورهم.
صار البطل الذي يطارده الجميع في الموضة التي بدأت منذ مسلسل "رقم مجهول"، هو رجل الأمن المسكين الذي يجب أن تحبه وتنفعل من أجله تحت ملامح ياسر جلال الواثقة المهذبة والتي يجب أن تكون كذلك لأنه "ظل الرئيس" يشارك الضابط اللوذعي محمود عبد المغني الذي يمتص دخان سيجارته مثل عادل إمام وبلموندو في شبابهما، وفشلت فرقتا أمن مركزي ومكافحة إرهاب بكامل العدة والعتاد في مواجهة الأشقياء بالحلقة الأولى، لكنه تناول مسدسه وطقطق عضلات رقبته فأسقط العصابة كالعصافير دون أن يصاب بخدش واحد.
لم تخرج المسلسلات المصرية التي قدّمت رجال أمن كأبطال دراميين عن إطار المباشرة الواهية وإلصاق التهم الجاهزة بالخصوم السياسيين للنظام الحالي
أشياء مثل هذه ظهرت في مسلسلات العام الماضي وأشبعها الناس سخرية، لكن نجم زمانه محمد رمضان لا يزال مصرًا عليها في محاولته تسول إعجاب مشاهديه، وبالمثل مؤلفه الملاكي محمد عبد المعطي الذي يحاول أن يخلق منه أسطورة شعبية "بالعافية". يظهر رمضان/زين القناوي في إحدى حلقات "نسر الصعيد" أثناء تأديته إحدى مهامه الجانبية التي يسلّي بها المشاهدين، كما يليق بأي "سوبر هيرو" محترم، والتي تتلخّص في الإيقاع بواحد من عتاة المجرمين يدعى سيد السبع، يعرّفه المسلسل بأنه "مسجل خطر عليه أحكام 180 سنة و7 إعدام ولم يتمكن أحد من الإيقاع به". بالطبع كل ذلك ليس مهمًا بالنسبة لبطلنا الخارق محمد رمضان، لأنه سيتمكن بمفرده وفي ظرف أقل من 5 دقائق من اقتحام مخبأ السبع، وقتل رجاله بأكملهم، قبل أن يصل إليه على سطح أحد البيوت، ويبدو السبع كمن ينتظر وصوله بالفعل، قبل أن يعاجله بعبارة شديدة الغرابة تفيد بأنه كان يتوقع أن زين ولا أحد غيره هو مَن سيقبض عليه! لكن من يعبأ بهذه الأمور إذا كانت المسلسلات تستهدف جمهور "فيسبوك" الذي سيروّج لها باقتباسات عابرة منها على بعض اللقطات الرومانسية (دائمًا سيكون هناك لقطات رومانسية أحد أطرافها ضابط مصري تقع في غرامه كل امرأة جميلة تقابله) أو بعض اللقطات الأخرى التي تظهر إقدامًا ومهارة قتالية نادرة.
اقرأ/ي أيضًا: الدراما المصرية.. بؤس الكوميديا
محمد رمضان بنفسه وصفته ظهر العام الماضي في إحدى إعلانات التسول بالثياب الرسمية وسط دفعته، حين كان يؤدي خدمته العسكرية الإلزامية، في استغلال مثالي من السلطة لشعبية "النجوم" التي ترحب بأن يكون مدخلها للقلوب كما استخدمت حكومة يوليو إسماعيل ياسين، ثم جرّدته من ماله ولفظته معدمًا. من مساخر القدر، أن يظهر رمضان في العام التالي مجسّدًا شخصية زين القناوي، ضابط الشرطة الخارق، بعد ذيوع شهرته في شخصية البلطجي، ثم يلي ذلك إطلاقه لفيديو كليب يحمل كمًا هائلًا من مظاهر التعالي والبؤس يعلن فيه إنه "نمبر وان" في مصر.
لا شك أن التقدير واجب في حالة من يهبون أرواحهم من أجل الدفاع عن أمن وطن ومواطنين، وليس أمن سياسيين ومسيّرين يتفننون في إهلاك المصريين بقرارات متسرعة وخطط غامضة ومشاريع فاشلة. لكن المعالجات الدرامية التي قدّمتها مسلسلات مثل "نسر الصعيد" و"مليكة" و"أمر واقع" و"كلبش"، تشبه في تهافتها ما قدّمه العام الماضي مسلسل "وضع أمني"، حيث لم تخرج عن إطار المباشرة الواهية وإلصاق التهم الجاهزة بالخصوم السياسيين للنظام الحالي والإسراف كالعادة في تمجيد رجل الأمن/ الدولة على حساب كشف الظروف التي خلقت الإرهابي وتعمّد تجاهل غياب الديمقراطية وبواعث الفقر والكبت العام، في مقابل اعتماد خطاب وطني ملتبس تتماهي فيه الحدود بين السلطة والدولة والنظام الحاكم، ينطلق في لفظ عبارات إنشائية مؤثرة حول الخطط الكونية والمؤامرات المحيقة بهذا البلد البائس. فإذا كان التعاطف مع ضباط الشرطة هو الهدف من وراء كل ذلك المجهود والأموال المصروفة على مسلسلات يتقاضي أبطالها مبالغ تزيد عن ستة أرقام في بلد يعيش أكثر من ربع سكانه تحت خط الفقر، وفقًا للبيانات الحكومية، فإن المنتجات الفنية الخارجة من رحم هذا المشروع لا تتجاوز خط البؤس الفني، حتى وإن وجد "نجومها" في المشاهدات المليونية لحلقاتها دعمًا ينطلقون منه تأكيدًا لمكانة أو شعبية ما.
والحال، أن هذه الحملة الدعائية الدرامية تأتي في إطار الاستجابة لرؤية الرئيس عبد الفتاح السيسي ومن والاه من المواطنين الشرفاء بتقديم النماذج الرفيعة في السلوك والأخلاق والتضحية، وهي أمور يبدو أنها موجودة حصرًا لدى رجال الشرطة والجيش، الذين طالتهم تشويهات وافتراءات وضربات خبيثة من أجل تقويضهم وتفتيتهم لأسباب سياسية، وفقًا لكتالوج التبرير الوطني الذي تردده جوقة الموالاة والاستقرار وإبقاء الأمور على حالها لأطول وقت ممكن. ورغم ما يكشفه التزامن الفجّ عن الأجندة الحقيقية وراء ظهور هذا الكم من الأعمال الدرامية في الموسم الرمضاني، إلا أن الإنكار سيحضر في حديث كل مؤلفي هذه المسلسلات.
ما شاهدناه في مسلسلات مصرية في رمضان لا يمت للواقع بأي شكل من الأشكال، لكن هذا ما تريده الدولة أن يكون
على سبيل المثال، يذكر محمد رفعت، طبيب أطفال وكاتب درامي، في رده على سؤال بخصوص دافعه وراء كتابة مسلسل "أمر واقع" خاصة أن أغلب مسلسلات رمضان تحتوي نفس التيمة والطباع، فيقول إن فكرة المسلسل راودته منذ وقت طويل ولم يضع في اعتباره مسألة إلقاء الضوء على ما يحدث مع ضباط الشرطة ولكنه قرر التراجع عن الاسم الأول الذي اختاره "آخر نفسي" بتفضيله الاسم النهائي "أمر واقع"، راغبًا في تقديم الوجه الآخر لحياة ضباط الشرطة وتحديدًا الجانب الإنساني، وذلك من خلال الاستعانة بخبرته الحياتية ومعايشته الشخصية. ينفي رفعت أي تدخل من الشرطة في عمله، حيث اقتصرت العلاقة بوزارة الداخلية على إعطاء تصاريح التصوير في الشارع، حسب قوله، بينما يشير إلى اعتراض مؤسسة الرقابة على بعض التفاصيل الدرامية التي تنتقص من الشكل العام لضباط الشرطة، مثل أن يعمل شقيق أحدهم نادلًا في مطعم.
اقرأ/ي أيضًا: "الهيبة العودة".. هل تكون آلة الزمن طوق نجاة الـ"ما بعد أكشن"؟
لكن كل هذه المبالغات في تمجيد دور الشرطة ورجالها لم يُرض لجنة الدراما (وهي لجنة منبثقة عن المجلس الأعلى للإعلام، الذي أوجده السيسي بقانون خاص قبل عام لإحكام سيطرته على المحتوى الإعلامي)، التي رأت في ما قدّمه "كلبش" و"نسر الصعيد" تشويهًا لصورة رجل الشرطة، وأعربت عن قلقها من أن الجماهيرية التي يحظى بها رمضان وكرارة ستوسّع من مدى التأثير السلبي الذي لن يقتصر على فئات الشباب بل ربما يصل إلى الضباط حديثي التخرج، كما شمل بيان اللجنة قلقها بشأن تأثيرات لاحقة قد تظهر في صورة كراهية الضباط من قبل الأطفال والمراهقين الذين سينفرون من عنف وهمجية شخصية الضابط المقدمة على الشاشة. النبرة الأخلاقية لبيان لجنة الدراما لم تكن مستغربة، ولا حتى بقية ملاحظاتها بخصوص المسلسلات، لأنها في الأخير ليست سوى كيان هلامي يسبح في سديم دولة السيسي ذات الألف ذراع. ربما هذا ما عجّل بتقديم أغلب أعضائها استقالتهم في نهاية الشهر الماضي، بعدما أيقنوا لاجدوى المكان الذي قبلوا التواجد فيه بأمر من السلطة، أو بعدما أدركوا أن فرصتهم في معاودة التواجد الفني والوقوف في البلاتوه أصبحت أصعب من ذي قبل. ويبقى الشيء المؤكد أن ما شاهدناه في مسلسلات رمضان لا يمت للواقع بأي شكل من الأشكال، لكن هذا ما تريده الدولة أن يكون، وليذهب المنطق والواقع إلى الجحيم.
اقرأ/ي أيضًا:
عايد علقم: حين تكون فلسطين محور الدراما عربيًا تتم محاربة إنتاجها!