في صيف 1992، وبعد ثماني سنوات على تشخيص إصابته بالشلل الرعاش (داء باركنسون)، زار محمد علي كلاي سوريا للمرة الثانية، وحطّ رحاله في بيت مفتي الجمهورية أحمد كفتارو.
تبدو التسعينيات مقارنة بغيرها من أشد العقود هدوءًا في تاريخ سوريا المعاصر، فاستتب الحكم وأسباب الصمت، ولم يعد يُسمع دبيب المعارضين الذين رُميوا في السجون لمصير مجهول. كما أنّ النظام تخفّف من أعباء الأحلام الاشتراكية عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، فأصدر قانون الاستثمار رقم 10، وحَكم لبنان، واستعد للتفاوض مع إسرائيل، وتصالح مع الأمريكان وحارب معهم صدام حسين.
عشنا والأحوال مستورة لا غنىً ولا جوع، نزرع ونأكل وننتظر الموسم والراتب أول الشهر، وبات يأتينا السياح من المطار إلى سوق الحميدية ليلحسوا بوظة بكداش ويلتقطوا الصور في بيوت دمشق القديمة، قبل أن ينطلقوا إلى محافظات أخرى لرؤية معالم البلاد الأثرية التي تثير فينا الفخر والملل، فلا ندري لماذا حقًا يؤخذ الأجانب فيها إلى هذا الحد، فنحن نفضّل الاستيقاظ من القيلولة والتمجلس عند العصر على الوقوف والاندهاش أمام الأعمدة الحجرية، وهذا ما فعله محمد علي كلاي مدفوعًا بدعوة شيخ الطريقة النقشبندية.
بعد ثمانية سنوات على تشخيص إصابته بالشلل الرعاش (داء باركنسون)، زار محمد علي كلاي سوريا للمرة الثانية، وحطّ رحاله في بيت مفتي الجمهورية أحمد كفتارو
رحّب أحمد كفتارو بأسطورة الملاكمة وبطل العالم فيها ثلاث مرات، مغبوطًا لأنّ هيئة محمد علي، ذكّرته بصفات من حمزة وبلال الحبشي. كان عملاقًا مثل إله أفريقي أسلم في أمريكا واتجه الآن شرقًا نحو الينابيع والحقائق والكرامات، قاصدًا زيارة شيخ جليل ذي كلمة يُصغي إليها الناس ويُطرق لها الحاكم.
اصطحب كفتارو الملاكمَ الوديع إلى مزرعته في غوطة دمشق، حيث الشام خضراء والمياه منعشة وشوارب الرجال المحيطين بلحيته بارزة وسوداء، واستضافه فيها مدة شهر كامل حسبما ذكر نجله صلاح الدين كفتارو، الذي يظهر في الصورة أدناه شابًّا يُحدّق بمحمد علي وهو يرتشف الشاي الخمير، ومن ورائه تنتصب جذوع الأشجار والدوالي المطلية بالكلس لكي لا تنال منها حشرة حفّار الساق.
في الزاوية يقعد الشيخ أحمد كفتارو وقد أزال عمامته عن رأسه، وراح يدير شأنًا ما عبر سماعة هاتف، اعتادوا مدّ سلكه الطويل من داخل البيت إلى المصطبة ووضعه قرب الشيخ. كان ينتظر انكسار ضوء الشمس ليجلس تحت العريشة ويستقبل الهواء الغربي وفاكهة الغوطة التي تحضر على مائدته بين أوقات الصلاة.
هزم محمد علي كلاي بطل العالم سوني ليستون عام 1964، وبعد نحو عام تقريبًا أعلن إسلامه منضمًّا برفقة مالكوم إكس إلى جماعة أمة الإسلام. سمّى نفسه محمد علي متخليًا عن كاسيوس مارسيلوس، ثمّ رفض الخدمة في صفوف الجيش الأميركي، وما لبث أن صار الملاكم المعجزة ورمزًا لمناهضة التمييز العنصري واضطهاد السود والحرب على فيتنام. فأخذ يجول في دول الجنوب التي شاطرته موقفه من السياسات الأمريكية، ليمرّ على سوريا وهو في طريقه إلى الحج عام 1972، فالتقى رئيسها الجديد حافظ الأسد وحضرت اللقاء بقوة ابتسامة وزير الدفاع مصطفى طلاس.
لكنّ صورته مع حافظ الأسد لا تُوحي بأنهما تبادلا اللكمات مازحين، كما فعل كلاي مع كفتارو في مزرعته بعد عقدين، عندما هيّأ الحاضرون قبضاتهم ضاحكين للبطل غير مصدقين وجوده بينهم، سعداء بشيخهم المبشّر بالدين اليسير الذي لا يرفض الدنيا وملذاتها. سيجوب محمد علي دول العالم الثالث حاملًا معه هذه المزحة فيمارسها مع شخصيات كثيرة منها زعيم كوبا فيديل كاسترو عام 1996.
قبل أن ينزل محمد علي كلاي ضيفًا على الشيخ، أجرى زيارة رسمية فأخذه الرفاق إلى ما يظهر أنها خيمة احتضنت مهرجانًا خطابيًّا، وحمّلوه صورة الرئيس وأخذوا لقطة جماعية معه. ثم غادر إلى مزرعة كفتارو، الذي كان قد ضمن كرسيّ الإفتاء منذ خرج يمشي على يمين حافظ الأسد من باب الجامع الأموي، حين تسلّم السلطة بعدما زجّ في السجن رفاقه البعثيين، الذين اتُهموا بمجافاة القيم الدينية والتطاول عليها.
عرض الشيخ كفتارو على محمد علي كلاي معالجته من الأمراض التي يعاني منها وعلى رأسها داء باركنسون، فشكّك البطل ثمّ وافق على خطة العلاج. بدأت بجمع أدويته التسعة والتخلص منها، ثمّ إخضاعه "للصوم الطبي"، فمنعوه عن الطعام طيلة أربعة وعشرين يومًا، لم يدخل جوفه أثناءها سوى خمسة لترات من الماء وثلاث ملاعق عسل يوميًا. خسر صاحب الوزن الثقيل نحو اثني عشر كيلوغرامًا وأخبرهم أنّه شعر بأنّه بات أصغر بعشر سنوات، ثمّ عاد إلى زوجته في الولايات المتحدة، محتفظًا داخل رأسه بصورة لا تشبهنا.