"كنتُ في كل كتاب أواصل الكتابة إليك لتكذيب حقيقة غيابك".
عادةً ما أفتتح القراءة بعبارة من لدني أدبج بها المقال، ولكن عندما يتعلق الأمر بالإبداع في التركيب وتأديب الكلمات على أخذ أماكنها كما ترى، وقد درسنا الجملة الفعلية والاسمية، أكاد أجزم أن هناك جملة لم ندرسها بعد تسمّى الجملة السحرية!
أقف متأملًا حدس أحلام مستغانمي، من يهمس لها بالكلمات؟ ومن أي النوافذ تلوّح لها بنات الأفكار؟ لا يسعني المقام مع كبرياء هذا النص لأتحدث عنها كمنتجة أدب يفيض به بحر الرواية الحديثة، لأن كلماتي شحيحة، إي نعم.. إنني مقصّر إن قلت الروائية الفلانية المولودة في البلاد كذا والمؤلفة للنصوص كذا، الحاصلة على الشهادة كذا أو الجائزة كذا... لذلك سأقول أحلام وكفى.
تشير أحلام مستغانمي في سيرتها الروائية "أصبحتُ أنتَ" إلى أن أبطال رواياتها نسخًا من أبيها الشريف
وسأكون في منتهى الصراحة قبل التنزه في حدائق هذه السيرة "أصبحتُ أنتَ"، لقد قرأتها وجلست يومًا كاملًا أستجمع قواي لأكتب ما يجب كتابته، لكن جلوسي لم يفدني في شيء، إذ ظل صخب الأحداث بأوجاعها وانشراحها يطرق بصلة رأسي كل حين، فما وجدت غير القيام للكتابة فكاكًا. عمن أكتب؟ عن سيدة جزائرية أمينة أخرجت الأدب العربي إلى العالم في أبهى حلة؟ كلا، لا أستطيع، كيف لي أن أعزل النص عن صاحبته – رولان بارت – ونحن أمام سيرة روائية، أجل، سيرة روائية.. لقد تخلصت أحلام من الذاتية حتى في كتابة السيرة.
في عصر الرواية يجتهد الكتّاب لتنميق أساليبهم لعلهم يحظون بقراء يرافقون نصوصهم نحو النجاح، لكن قلما تتأتى ميزة الشاعرية في نص منثور. فالشاعرية هبة مودعة، تصقلها التجارب، ويقدمها لجمهور القراء كائنان أحدهما الصدق والثاني الإخلاص.
المُلاحظ لنتاجات أحلام، يرى أن الأغلفة لا تنزع ثياب البياض، لون الصفاء، لون العطاء، لون الحرية والمحبة، ولون الفناء أيضًا، وكأنها في طواف أو صلاة سرمدية مطهّرة لكل ما انكتب.
غاب الشريف مستغانمي عن عالم الأحياء، لكنه لم يغب عن عالم أحلام، إنه الوقود الذي تحرك به مراكب الأدب، الشرارة التي سمحت لها بالكينونة يوم إلقاء قصيدتها أمام جمهور يتنكّر لإبداع الإناث.
أصبحتُ أنتَ.
لنتفق على أنّ "أصبح" من أخوات كان، وهي فعل ماض ناقص من النواسخ، بمعنى هلك وفني وصار، أي أن أحلام فُنيت في أبيها إعجابًا ومحبةً بالمختصر المفيد. ثم يأتي الإفصاح حينما نقرأ: "أصبحتُ أنتَ. أعدتُ اقتراف كل حماقاتك، خسرتُ بسخاء، وبسخاء تهكمت على خساراتي. أكرمتُ أعدائي لأن لا قصاص أكبر من الكرم...".
إن الكتابة إرهاق وعناء، بل صُنفت في خانة المشاق، لذلك كانوا يعذبوننا حينما لا نفتح الواجبات في المدرسة بكتابتها في البيوت عشرات المرات. بربّك دُلّني على الفرق بين العامل في منجم الذهب المهموم بصياغة التِّبر، والمشتغل على توليد فكرة ذات قيمة صالحة للقراءة والنقاش أبد الدهر؟
فالنصوص الماجدة لم تكن كذلك إلا لما نقصت من أجسام مبدعيها كيلوغرامات وزادت في أعمارهم سنوات، إذ يستحيل أن يتنعّم في حيز الراحة من اختار الكتابة ضميرًا حيًا والإبداع صناعة حسنة، ولكن نفثة من أنفاسه المسطّرة تجعل القراءة سعادة وعبادة.
إن الخالدين يحملون هم الأمة، في الوقت الذي يحمل فيه التافهون هم الشهرة.
تشير أحلام إلى أن أبطال رواياتها نسخًا من أبيها الشريف، انشطروا على أدوار مختلفة ليقدموا المعرفة بالتاريخ والهوية الجزائرية حينًا، ويدافعوا عن القضايا العربية الشائكة حينًا آخر. فكل بطل أخذَ من الشريف خاصية سهّلت له العيش في النص ساردًا أو مسرودًا عنه. وهنا تتجلى قوة بعث الشخوص في الرواية، فهي وإن خُلِقت من عدم، فإن هناك صلات مع أشخاص يجعل منهم كلّ كاتب أبطالًا لرواياته مع احتراف الاختفاء عن سلطة الرقيب والحسيب.
وفي هذه السيرة المؤثثة بدقة، تُستخرج الأحداث من المادة الخام كعناصر لا يمكن أن يستغني عنها أي نص روائي، تلك المتمثلة في شخصيات حميميّة أصبحت شخوص أحلام في سُرودها، لأنها عالقة في الذاكرة البيضاء، ذاكرة الصبي.
كيف ننسى من احتوانا أثناء الضوائق؟ إلا أن نكافئه – ككتّاب – بوظيفة دائمة في مؤسسة القراءة ليُطبّب ما استطاع من العِلل. تستدعي أحلام لسيرتها خالها الذي تناديه حسب الأصول "سيدي عز الدين"، وقد أعجبني ما أفرحها به آنذاك، برغم أن الحدثين أحدهما محكي والأخر مروي: "رضيعة أهداني خالي خلخالي الذهبي الأول بما جمع من مال، ثم أهداني دراجة للأطفال".
ويبدو جليًا أن أحلام تريثت مطولًا حتى كتبت هذه السيرة، فهي تضعُ أعلى كل فصل عبارة لكاتب عظيم كرافعة لثقل الفكرة المُقبِلة عليها من قاع النقد، ثم تشرع في السرد تاركة المتلقي في انفساح فكري لقطف ما راق له من المعاني، ولنا في قصة الببغاء خير مثال، وما أروعها من قصة، إنها قصة الكرامة، قصة الحرية.
إن الأنفة والشهامة والشجاعة والعزة والأصالة طبائع ليست مكتسبة، وإنما هي جينات تسري في العروق وتتوارث في السلالة، ولا ينبغي توظيف الدين كرافد لبعضها أو كلها أو مجهرًا لتقصّيها، فلعلّك تجد رائد حانة رحيم وتجد رائد مسجد لئيم، مع أن الصلاة فرض عين وشارب الخمر أثيم. لذا بإمكانك أن ترى الرحمة والإثم في حياة إنسان، وترى أيضًا النفاق وقلنسوة الإسلام في حياة إنسان آخر، فسيف الله المسلول من على رقاب المسلمين إلى رقاب الكافرين، لم تضمحل من نفس فارسه درجة البسالة بين فعل كان وأصبح.
كان على الشريف مستغانمي أن يثبت لصاحب المكتبة أنه لا يهادن، عندما يُلذع باللسان الذي يدفعه التذمر من الزبون إلى رمي جملة تجعل دم الشّهام في فوران لا يبرد إلا بردّ الصاع صاعين. قال له وهو يتصفّح الكتب: "هل تنوي شراء الكتب أو أنت هنا لتضيع وقتي فقط؟" فما كان منه إلاّ أن أمَره بجرد كتبه كلها بينما يعود للبيت وإحضار دفتر شيكاته. تتوقف الشاحنة أسفل البناية وتحمل المكتبة كلها في صناديق، لم تفهم أحلام ما يجري إلى أن ولج أبوها غرفتها وهو يقول بالفرنسية:
- حبيبتي تعالي انظري، لقد اشتريت لك مكتبة.
وابُشراه من نور المبين الذي زيّن فقرات أحلام، لقد اكتسبت كتاباتها ذلك التحبير البالغ الغاية، وهنا يكمن سرّ الإقبال على نصوصها المنضوية تحت راية السهل الممتنع أسلوبًا، المسترسلة لصوت ابن مدينتها مالك حداد فكرًا، فمن قوله تعالى: "وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا".
كان لها استنباط منبعث من الذاكرة الواعية بالآية إذ تقول في السيرة: "عند أول ضربة بعصاك السحرية، استبدلت لي بستة وعشرين حرفًا لاتينيًا، ثمانية وعشرين حصانًا عربيًا، لا لتُكسبني حرفين إضافيين، ولكن لأتعلم باكرًا الصّهيل بأبجديةٍ عربية".
تُقرّ السيدة أحلام، المخاطبة لأبيها في هذه السيرة، أن الذكريات راسخة في الوجدان، وأن فعل الكتابة جنون، إذ يصعب نسيان أية ذكرى واضحة الصورة بكرور الأيام، فمهما تغيرت الأماكن وتبدّلت أنماط العيش، فإن الماضي عالق بالذاكرة. ولذلك ترى الممحاة كتابة أيضًا، فالمبدع يكتب عمّا يحاول التخلص منه كلوعة أو يحلم القبض عليه كبهجة، يزعم دفع المشيئة. وجدتها تقول بهذا الصدد: "الكتابة وهم الأمنيات المستحيلة المحقَّقة على ورق".
إن زخارف الحياة تخطف أبصار أولئك الذين بينهم وبين النهاية طول الأمل، فهم حريصون على الكسب دون العطاء، يظنّ الواحد في المكاسب متاع وهناء ما بعده شقاء، تلك النظرة المادية صحيحة إلى حد ما لأنها تجعل الإنسان في عزة وقوة، لكن الأصح هو كون هذه الأشياء وسائلَ لترويج المحبة بالكيفية التي حثّت عليها رسالة السماء.
سنكتشف بعد فوات الأوان أن عطاءً ما كان بمقدورنا أن نبادر إليه في ساعته، حال بيننا وبين سعادة حقيقية منعتنا منها النرجسية اللعينة.
ومن "أصبحتُ أنتَ" نشم عبق السيرة: "كانت أمي ترى ما يشبع عينيها، وأنت ترى ببصيرتك ما يشبع روحك، مدركًا أنك لا تبلغ الكمال الإنساني إلا باستغنائك عن الكماليات، وكل الخلافات بينكما ستأتي من هنا".
والكرماء لا يبخلون بمدّ الحروف هدايا خالدة الأثر حتى وهم يكتبون سيرهم، لأنهم يشعرون بثقل أولئك اللذين ماتوا وكانت لهم الكلمة الحرة في حياتهم، فتراهم يدْعونهم إلى مآدبهم الأدبية بين الحين والحين، لا لتسويد الصفحات، وإنما لتنبيه الغافلين إلى أن هناك أدبًا راقيًا لم يأخذ حقه من النقد وأصبح بهبّة التفاهة في فلاة الفقد.
تقول أحلام مستغانمي في ختام سيرتها الروائية: "نحن يتامى الحب وحراس الأوهام"
تضرب لنا أحلام مثَلين بحقيبتين، إحداهما لكاتب ياسين غداة الاستقلال، المسرحية الأكثر جدلًا "محمد خذ حقيبتك" وكأن السيرة انكتبت لتُقرأ في ظروف فرنسا اليوم بالذات، إذ تحثّ المهاجرين الجزائريين على المغادرة،؛ والأخرى للمطربة البرتغالية ليندا دوسوزا "حقيبة الكرتون" التي قذفتْ بها إلى عالم الأضواء والثراء، وعلى المتلقي أنْ يستمتع وحده بمآل الأديب والمُطربة.
لقد غادر الشريف مستغانمي دار الباطل مع ميلاد "ذاكرة الجسد"، وكان لزامًا أنْ يغادر كي لا يواصل الحياة داخل الكتاب وخارجه، كما تناولت ذلك السيرة التي تصرّح فيها أحلام أنها لا تعني أحدًا سواه، ولن توقعها في معارض الكتاب، ولن يسألها صحفي عن قصدها من كل جملة.
سيرة اختُتمت بعبارة عميقة المعنى: "نحن يتامى الحب وحراس الأوهام". وقبلها، هناك تسع رسائل تطفح حميميّة، وكأنها جنين عاقل أبى الولادة حتى علم أن المُحبّين في شوق لرؤيته، فوُضِعتْ "أصبحتُ أنتَ" خلاصًا للانتظار.