"لا بدَّ من الحقيقة لكن هل نستطيعُ حقًا أن نستوعبَ ما يتلو معرفتنا؟"
من نيو أورلينز في الولايات المتحدة الأمريكية إلى إحدى المدن التوأم في فرنسا، لطالما كنتُ أشعرُ بالملل من روتين العمل في مدينة البؤس الصاخب، ولطالما ضجرت من أجواء لويزيانا بشكل عام، ولحسن حظي - للآن فقط- فإن الشركة التي أعمل بها نقلتني إلى أورليان لأنني موظفها الأمثل، ولو أني أدرك أن ثمة خطب ما عندما وصلني البريد الإلكتروني، وأن القدر يعبث معي، لكن متعة الإنسان في اغتنام الفرص لا يقوى عليها أي حدس آخر.
بحسب إجراءات الشركة، وللصدفة، نقلت إلى أورليان في فرنسا، على ما أذكر أنني نقلتُ في واحد مايو، ولكن بدأت الأحداث تتوالى على ذهني يومًا بعد يوم فما عدت أذكرها وكأنَّ ذاكرة الوجود صفعتني فأسقطت مني جميع الأيام، وبقيَ آخر الأسبوع أعيشه يتردد في ذهني وتعصف بي ألحاظه.
تركت الفندق وشيءٌ ما دفعني لأن أتجه إلى كاتدرائية أورليان. عجبتُ عندما رأيت مسيرًا بهذا الحجم، وسرعان ما تذكرت مناسبة اليوم فورَ ما لاحظت راية جان دارك.
السابع من مايو في أورليان الفرنسية هو ذكرى لإحدى أهم أعلام حرب المائة عام في فرنسا جان دارك. حينها لا يسع دماغك إلا أن يستعرض لك كلَّ معلوماتٍ تعرفها عن القديسة هذه، أو عذراء أورليان التي حفرت اسمها في سجلات التاريخ الفرنسي وبطولاته الملحمية.
وبخاطرةٍ غريبة يراودك سؤالٌ وجيه بعد كل ما حدث بها كنتَ دائمًا تستغرب قصتها، إلا هذه المرة تُصلي لها حتى تفهم ماذا يجري. من أسبوعٍ إلى الآن تصلي حتى تبعث لك بعلامة (كَالتي كانت أظهرتها لولي عهد فرنسا فنالت ثقته) لتُظهرها أنت لمجرى الزمكان حتى يُفسر لك ما يحدث.
تسيرُ مسير القائمين على الاحتفال مشاهدًا تلك الراية وأفكارك تعصف، تتمنى الآن لو أنك فرنسي وتتبع لكاتدرائية أورليان فتنخرط بين الناس بشخصية جديدة وتنسى حقًا من أنت، لعلَّك تنسى خوفك وتنسى صورة فتاةِ المترو تلك التي لا تغادر ذهنك. شامةٌ على خدها الأيمن، عيونٌ عسلية تجمعُ بين الغموضِ والبراءة، شفتانِ بَثَّتا بكلمةٍ واحدة قبل أن ترمي الفتاة بنفسها من الباب ذاك، ولكن كيفَ يكون باب المترو مفتوحًا في محطة معروفةٍ من المحطات بين باريس وأورليان محطة "Porte d'Orléans".
تُعيد استذكار المشهد، شالٌ ربيعي قد لمسَ كتفك فورًا تخطفُ نظرك حركة صاحبته كأنها تستقصدُ الحركة
الشامة. حركة الفم "عُد إياك أن تتوه مجددًا، أديلان عُد".
أديلان! منذُ زمنٍ بعيد لم يسمع هذا الاسم، ولم يذكر سوى في البريد أو الشحن أو عندما يسأله صاحب توصيل الطعام عن منزله حتى كلُّ زملائه بالعمل يختصرون الاسم بـ أديل فتعود عليه.
مع شرود ذهنه ابتعد من غير أن يلاحظ عن حشد جان دارك.
يبدو أن الكثير من القصص يخبئها العالم أغرب من قصة نبوءاتها وإشارتها، وهناك أصعب من مشهد إعدامها بالحرق المتكرر ورميِ رمادها في نهر السين.
سارت به أقدامه لا يعلمُ إلى أين ولا لمَ منذ ذلك المشهد والفتاة تلك لا تفارق ذهنه وكيف فزع إلى باب المترو فاصطدم به، وأثار ضحكة هذا من هنا واستغراب ذاك من هناك. حاول أن يعتذر لكن كلٌّ أصبحَ ينظر له نظرة المجنون.
يقسمُ بينه وبين نفسه أنه شاهد الفتاة تقفز حتى لمح الشال نفسه من شباك المترو، وعندما حاول أن يتقصى آثار الموضوع لم ير شيئًا. تُرى من هي؟ ولمَ منذ قدومه إلى هنا صارَ يراها في أزقة أورليان وفي لوحات جان التي يتداولها الناس هنا، ويسمعُ صوتها بين أصوات المرنمين في الكنيسة؟ يستدير يراها بينَ القضبان أو يلمح عينيها بين أعينِ الراهبات وفي أحلامه أصبحت تتردد دائمًا تعيدُ نفس الجملة وتبرق عيناها مجددًا "عُد أديلان عُد" ثم تختفي وتتلاشى الصورة ويبقى أثرها
اقترب الوقت من منتصف الليل، قبلَ أسبوع كان يتذمر من نيو أورلينز في الولايات المتحدة، واليوم يحن إلى ذاك الروتين الآمن رغم ملله منه، غريبٌ الإنسان كيفَ تصبحُ أبغض الأشياء إليه أحبها في الوقت التي تغدو أبعد ما يمكن عنه! يُدرك فقط قيمتها الحقيقية على الأقل كانَ يخلد إلى النوم في الثامنة ليستيقظ صباح اليوم الثاني على بريد من ميشيل، مديره في الشركة، يوجهه ويسلمه مهام اليوم مع بعض الملاحظات التي لا فائدة منها، ولكن ما دام أنه المدير عليه أن يوجهها من سلطة المنصب لا أكثر، وعلى أديل أن يستجيب له ويذهب للعمل وبداخله قاموسٌ من الشتائم على ملل المدينة لكن كل ذلك تبدد عندما قررت شركته في التاسع والعشرين من إبريل نقله إلى فرنسا، كانت ضربةٌ موجعة بحق التكرار الذي لازم آخر ثلاث سنوات من العمل المتكرر المعروف، لكن لم يكن يعرف أن حياته ستنقلب رأسًا على عقب ابتداء من أول أيام وصوله إلى فرنسا، لا ميشيل يستقبل الرسائل ولا أيٌ من موظفي الشركة حتى ولا يعلم مع أيٍّ من أفرعٍ من الشركات الصديقة يجب أن يتعامل فقط وُجِدَ هنا في الواحد من مايو، ضمنَ فندقٍ لا يستطيعُ تمييز اسمه أو معالمه، جل ما يتذكره ويشغل تفكيره ما قصة الفتاة التي باتت تظهر في كلِّ أنحاء المعمورة في الخيال والحقيقة؟ ولمَ الآن؟ ولمَ لا يتذكر إلا قصة جان دارك ولا يستطيع التواصل مع أحدٍ في أمريكا؟!
سيحاول العودة إلى الفندق مرَّةً أخرى لربما يُشفق القدر عليه ويعيده إلى أقرب مكانٍ مألوف وسرعان ما استدار
استجابةً لصوتٍ من ورائه
- أديل توقف !
يستدير مرتعشًا، إنها هي؟
بصوتٍ خائف مَن أنتِ؟
- أنت تعلمُ جيدًا من أنا منذُ السابع من مايو في سنة 2019 وأنتَ تحاصرُ نفسك في ذكرى وفاتي.
ألمٌ فظيع في الرأس وومضاتٌ تغلبُ ساحات ذهنه.
تُكملُ: منذُ حادث المترو وأنت تلومُ نفسك لمَ في اليوم الذي قررت فيه أن تعترف لي بأنه لا بد من ارتباطنا الرسمي أسقطُ من الباب بسبب ارتيابٍ قلَّما يحدث وآخر ما تذكره صرخةٌ عالية باسمي ماتيلدا.
تعلو الأصوات في رأسه وتقترب منه أكثر فأكثر بدأ يشعر بلمستها، يبتعد ويتلعثم فيسأل: لكننا فعليًا اليوم هو السابع من مايو من سنة 2019.
تُصحح هيَ صحيح السابع من مايو لكن في سنة 2013، والوقتُ عندك توقف منذُ أربع سنوات..
يُستعادُ الموقف مرة أخرى وبطريقةٍ أوضح:
الواحد من مايو 2019
عزيزتي ماتي، أعتذرُ عن تأخري بالقدوم إليك لكن الشركة وافقت للتو على استكمال فرصة عملي في فرنسا، سوف أكون هناك قريبًا.
مع كل الحب،
أديلان
بعدها انتقل إلى أورليان وهناك حدثت الفاجعة. فقدها بحادث مترو بسيط، وآخر ما يتذكره أنها كانت عند الباب ويعلقُ الشال وبمحاولة يائسةٍ في تحريره يُفتح وتقذفُ خارج المترو على بعدِ تسعةِ أمتار. لم يستطع تخطِّي نظرتها الأخيرة، كانَ يود لو بيدهِ طلب واحد من العالم لكان أن يغير الموقف هذا وينقذها بدلًا من أن يُصعقَ بملامحها في العالمِ من حوله، نظرةٌ يملؤها الرجاء كيف يمكنه تخطيها؟ كيف يمكنه الاعتذار لها وكيف يستطيع التوقف عن لومِ نفسه لأنه لا يملكُ قوة خارقة تُغير الحدث.
الثامن من مايو 2022
في أول عناوين الجريدة: العثور على جثة شاب في مطلع الثلاثينيات تطفو على سطح البحيرة في حديقة فلورال دي لا سورس في أورليان، وبعد التحقيقات عُرف أنه مريضُ ذهان كان قد هربَ من مصحته وانتحر بتعاطيه جرعاتٍ زائدة من مضادات الكولين، مما أدى إلى فقدانه الوعي ثم الموت غرقًا وعندَ الولوجِ إلى معلوماتٍ تخصه في مصحته النفسية تمَّ الوصول إلى اسمه أديلان أوليڤر رايان. أصابه المرض بعد الصدمة بوفاة صديقته، حيثُ أوضحَ الطبيب المسؤول أنه كانَ وخلال سنوات علاجه يُعاني من هروب أديلان من المصحة أو محاولات انتحار فاشلة. إلا أن الطاقم المعني بإرسال المعلومات للشرطة الفرنسية وجدَ في غرفته رسالته الأخيرة وتتمتها كانت في جيبِ سترة الغريق، فيقول:
"عزيزتي ماتي، أعلمُ أنكِ في مكانٍ أفضل وما زلتُ أشاهدك كل يومٍ بجانبي في المرآة وفي انعكاسِ صورتي على ملعقة الطعام، وفي صورنا معًا، وفي آخر حديثٍ دار في الكنيسة عن جان دارك وبطولاتها، ولا أدري هل فعلًا بعدَ ما ذهبت عليَّ أن أتأقلم على فقدانِ الفتاةِ الوحيدة التي أعطت لحياتي معنى الدهشة أخيرًا أم سأشرِّف كل الحبِّ الذي أكننته إليكِ بأن أُنهي مقاومتي هنا؟ وإذا ما كنتِ فعلًا في مكانٍ أفضل لمَ تطاردني ضحكاتك؟ لمَ أرى وشاحك الأحمر معلقًا من حولي! لمَ لا زالت تفاصيلك تأبى أن تتركني وحيدًا مفارقًا ضجيج دماغي..
أعتقد أن السابع من مايو هذا العام سيحدد ما إذا كانت فرصةُ النجاة بيدي أم فُقِدَ الأمل "
يكمل الطبيب:
ولأننا تعودنا على نوبات أديلان في كل سنة وبالتاريخ نفسه فكان من المريب أن نسمعَ هدوءًا يعم غرفته وفي فترة تبديل ممرضي الرعاية بدأ الممرض المسؤول تفقد الغرف فلم يجد أديلان وحالة استنفار أصابت الطاقم للبحث عنه..
الرسالةُ الأخيرة
عزيزتي ماتي كما هو الحال في الحب لا تستمر العلاقة بحب من طرفٍ واحد والآخر مجهول أيضًا بعد معرفة الحقيقة، والإدراك لا يمكن لأيٍّ كان أن يستقبل الصدقَ لأنه صدقٌ فقط، فعندما رأيتك في زوايا يومي الأخير هذا أدركت أن حالتي وصلت لمرحلة اليأس، وأن لحظات الصحوة هذه ما هي إلا صحوة الموت، والآن أنا فخورٌ لأنني لن أسكت الأصوات في رأسي بعلامات استفهام وتعجب، إنما بالحقيقة وهذا هو ختامُ ما لم أقوَ عليه كلِّ السنوات الفائتة، الآن يسرعَ الزمن فجأة وأصل إلى سنة 2023 وأواكب الأيام بلمح البصر ويتبين لي لمَ أنا هنا ولمَ لا يجيب أحد على رسائلي، الآن ما عادَ للوهمِ قناع..
ولأن لا مفرَّ من وصمةٍ يضعها الزمن في ذهنك، لا بدَّ على الأقل أن تكتفي بشرف المحاولة بغض النظر عن نجاحها أو فشلها
إلى اللتين ستظلان خالدتين في ذاكرة الوجود حتى بعدَ أن تخمد آخر شمعات ذاكرتي المعطوبة، وعلى الرغم من اختلاف الزمان والمعارك إلى أن كلتاكما بقيت الذكرى الوحيدة التي أملك، إلى الفقيدة ماتيلدا، والقديسة جان دارك.
لتبقى محاولتي مرتبطةٌ بكما وأتمنى أن نجتمع في ذاكرة وجودٍ آخر وجودٍ أستطيعُ أن أنقذ ماتيلدا، وأسأل جان عن سر إيمانها، فهاتان الورقتان التي وجدتهما سليمتين في ذهني.
أديلان