العربدة كل العربدة هنا، تحرث بمحاريث الظلّ يقينها العابث، محاولة أن تكتب الشتاء أبدًا مريرًا. عويلك يرتقي الهضاب، والأوامر تتلى عليك كل لحظة، أما آن للغد أن يأتي؟! أما آن للنهار أن يعلن نفسه سيّد الموقف هنا؟! واقف على التلة أنت، ترفع يديك للأفق ملوّحًا، مسائلًا الآلهة، راكضًا خلف ظلّك السكران في سباق مع الزمن، حاملًا أنشوطة بيضاء -ساد لديك الاعتقاد بأنها رمز للمحبة والسلام- لتلفّ بها خصر إيزيدية نحيل، تحلم بليلة العرس، وبعريسها الذي سيأتي مجتازًا كل الدروب؛ ليمسك بيديها، ويبعدها عن فوضى المكان كله.
هو ذا أنت شنكال، أو لتكن كما سموك بين قوسين "سنجار"، شهدت بعينيك قوافل العابرين تغدو وتأتي لتشبع شبقها اللامحدود من جسد تراب ارتوى من الوجع، وما عاد يمتلك إلا الصراخ والعويل على ذكريات أليمة.
هو ذا أنتَ تغوي الحبر ليستيقظ من رقدة العدم، فيسبر أغوار الحياة بحثًا عن حب ضائع للمكان، لوطنٍ أصبح مرتعًا قبلًا، والآن، لغرابيب نهشت من أجساد سيقت لحظة وجع تحت نياط السوط إلى المقصلة؛ لتغلق عينيك على آخر مشهد من نهارك المتعب.. من صخورك الملساء، من أشجارك المترامية الأطراف، وتدعو الملك طاووس، وتتذكر كيف حملْتَه ذات مرة ترتاد دور العبادة، تقبّل جدرانها؛ لتمسح عن جبينك الذي تراكمت عليه الذنوب، وقلبك المليء بالخطايا آثامك.
وحدك تؤرّخ الأيام والليالي، وتحسب المرات التي انطلقت فيها الغربان من كل حدب وصوب نحو روحك العارية، تقتل فيك الحقيقة عبثًا؛ فزرادشت لم يمت بعد، هكذا تحدث عنه نيتشه، هكذا قال: إنه قام من قبر صار هو الآخر نهبًا للجنون والفوضى، ليروي أسطورة البارود الذي سطا على المكان كله ذات ليلة.
ارتدت الإيزيدية زيّها الكردي، تمنطقت بحزام من جلد، اشعلت النار في جدائلها التي أطلقتها للريح، تأخذ في رحلة غضب في كل اتجاه رصاصات تنبعث من فوهات البنادق، تزرع الموت في شنكال، والسبايا يبكين، ويسقن في سلاسل الأسر، وفي ثياب العار، لا يملكن إلا الصرخات الناعسة، حين سطت الغربان في ساعات الصباح الأولى، لتقابل النعاس بالرصاص، والطفولة بالموت، والنساء بالسبي، وتمزيق الأجساد.
تغوص الخطا في الطين، والشرك يفتح فمه لاصطياد الفارين من رحلة الموت، والإيزيدية تطلق جدائلها للريح، وحدها تركض في ثنايا دروبك، بحثًا عن عريسها الذي لم تكن تعلم أنه قضى تحت وجع تكبير الغربان نحبه، وسقط تحت مشيئة حمقاء ملطخًا بدمائه التي روت شبق الرحيل تحت سطوة هؤلاء القادمين من كل رقعة من هذا العالم الفج.
تمتد المأساة إلى أنينها، تكمل ما تبقى من فصول مسرحية ابتدأت مشاهدها الأولى بوالديها وأخيها، ليمضي الجنون نحو كل شيء، وحين عاد المساء، ولم يعد أحد، انطفأت القناديل، الأضواء، والأشباح الأخيرة، حين لم يعد في شنكال أحد سوى بضعة أصوات لمن مارسوا دورهم في إتمام فصول المسرحية علقت المكان بجدائلها، وجمعت بيديها الأليفتين ما يتسع من كمال، فتحت النار على الجنون الذي فتح تلك الأوجاع في خاصرتها، صارت الرصاصات تعبق الجو برائحة البارود، أسقطتهم الواحد تلو الآخر، وحين لم يعد للوقت متسع، كانت الرصاصة الأخيرة من بندقيتها مزروعة في قلبها، ليجتمع السدنة بعد ذلك فوق رأسها، والخزنة، ليتدبروا خصومة الروح، يعبثوا بتلك الجدائل، ويلقوا كل واحدة منها في جهة، فتصبح إحداها شمسًا، والأخرى نجومًا تهوي في ليلة برّيّة، لا صدى فيها للصدى، فتصير هي خبرًا عاجلًا، وتترك الوحدة تتأمل في شنكال وحدها الحقيقة، وتغلق باب السبي، وتقضم بمخالب الفتاة الفجاءة، والظلام إلى الأبد.
اقرأ/ي أيضًا: