1
لا أعرف أن أصف حجم الحزن الكبير الذي شعرتُ به فورَ أن علِمتُ بخبر استشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة. ما أعرفه أنّه أوجعني وآلمني حتى خرستْ فيّ كلّ أدوات الكتابة. نعم، لحظتها، جمدَت الحروف وتوقفت الكلمات وانكتمت التعابير، ولم تظهر سوى الدمعة، كانت هي شكلُ الاستجابة الوحيد الذي تبدى لحظة معرفتي بالخبر، خرج بكائي صاخبًا وغاضبًا وساخطًا.
لا عجب وفلسطين كلّها تعرفُ شيرين في أن تكون استجابتها لخبر استشهادها دمعة حزن مكثّقة تذرفها عليها من كلّ عنصرٍ فيها
شاهدتني أمي فقالت: "مش لحالك بتعيطي عليها، كلّ اللي بِعْرفها بعيط عليها"، وعندما فكّرتُ بعبارة "كلّ اللي بعرفها" خطر على بالي أنّها تُمثّل هنا كلّ فلسطين؛ فلسطين بأهلها، وناسها، وحجرها، وشجرها، وأزقتها، وشوارعها، فكّرتُ في أنّه لا عجب وفلسطين كلّها تعرفُ شيرين في أن تكون استجابتها لخبر استشهادها دمعة حزن مكثّقة تذرفها عليها من كلّ عنصرٍ فيها، وكأنّها تقول بأنّ الدمعة هي شكلُ الاستجابة الأصدق التي يُعبّر فيها الوطن أحيانًا عن فقده لإنسانه.
2
شاهدتُ إحدى التقارير التي عرضتها قناة الجزيرة بعد استشهاد شيرين، وكان تقريرًا تتحدّث فيه عن تغطيتها لأحداث عملية "السور الواقي" إبان انتفاضة الأقصى، وتقول في كلماتها: "لم أنس أبدًا حجم الدمار، ولا الشعور بأن الموت كان أحيانًا على مسافة قريبة، لم نكن نرى بيوتنا، كنا نحمل الكاميرات وننتقل عبر الحواجز العسكرية والطرق الوعرة، كنا نبيت في المستشفيات أو عند أناسٍ لم نعرفهم، ورغم الخطر كنا نصر على مواصلة العملَ، كان ذلك في عام 2002، حين تعرضت الضفة الغربية لاجتياحٍ لم تشهده منذ احتلال عام 1967، في اللحظات الصعبة تغلبتُ على الخوف فقد اخترتُ الصحافة كي أكونُ قريبة من الإنسان، ليس سهلًا ربّما أن أغيّر الواقع، لكنني على الأقل كنتُ قادرةً على إيصال ذلك الصوت إلى العالم، أنا شيرين أبو عاقلة".
فكّرتُ وأنا أستمع لكلماتها بأنّها تُشكّل لي ولغيري من جيل الألفية الجديدة جزءًا أساسيًا من ذاكرتنا الوطنية، فإبان انتفاضة الأقصى كنا ما نزال أطفالًا صغارًا، نجلسُ أمام التلفاز ونحاولُ استيعاب الصورة الوحشية للاحتلال التي تأتينا بكلّ فجاجة، كنا نحاول فهم صورة الأب الذي يصرُخُ وابنه ممدٌّ في حضنه "مات الولد"، وكانت شيرين ناقلة لتلك الصورة، كانت تنقلها لنا بكلّ فجاجتها ووحشيتها، ومعها عرفنا وفهمنا معنى الاحتلال، واليوم وقد بلغنا ما بلغنا، نُشاهد اغتيالها في الصورة، نُشاهدها وقد أضحت جزءًا من تلك الصورة، ممدة فيها.. نُشاهدها فنبكي فقدِ جزءٍ من ذاكرتنا الوطنية، ونصرخ صرخة جيلٍ واحد: ماتت شيرين، ماتت شيرين..
3
كانت شيرين حريصة على أن تكون قريبة من الإنسان الفلسطيني، كانت حريصة على إيصال صوته الحقيقي للعالم؛ صوت ألمه ومعاناته ومَظالمه، وجرائم الاحتلال الكثيرة بحقّه، كانت حاضرة في ميادين فلسطين جميعها، وكانت تريدُ للصوتِ الفلسطيني أن يصل.
كانت شيرين أبو عاقلة حريصة على إيصال الصوت الحقيقي للإنسان الفلسطيني إلى العالم، ولهذا كانت حاضرة في ميادين فلسطين جميعها
لذلك كلّه اغتالتها الرصاصة، توجّهت الرصاصة صوب رأسها كما لو كانت تتوجّه نحو صوب الحقيقة، وتريدُ إصابتها في مقتل، توجّهت صوبها كما لو كانت تُريدُ أن تغتال الحقيقة، إنّ شيرين هي "شهيدة الحقيقة"، أو لنقل هي الحقيقة، فكأنّها لشدة حرصها على نقل الحقيقة تلبّستها ولبستها وتماهت معها، وكأنّ الاحتلال في فعلته باغتيالها أرادَ أن يَطمس ويخفي أي أثرٍ لها؛ لشيرين أو الحقيقة!
4
"المقاومة هي نبضُ شاعرٍ، وريشة فنان، وقلم كاتبٍ، ومبضعة جراح، وإبرة تخيط قميص فدائييها وزوجها"، وأضيف إلى ذلك المقاومة هي صوت كصوت الصحافية شيرين أبو عاقلة، التي ستكفّن بعلم فلسطين التي كرسّت حياتها لها، واستشهدت في سبيلها ومن أجلها، ستكفّن كما قال مارسيل: "بالأخضر كفناه، بالأحمر كفناه، بالأبيض كفناه، بالأسود كفناه"، وسيبقى دمها النازف رمزًا للعذاب الفلسطيني اليومي التي كانت حريصة على نقلِ صورة حقيقته طوال حياتها.