في تسعينيات القرن التاسع عشر، عام 1893 تحديدًا، قُتل عشرات العمّال المهاجرين الإيطاليين بفرنسا في سياق موجة تحريض أطلقها سياسيون فرنسيون معادون للأجانب حمّلوا "الآخر"، إيطاليين وغيرهم، مسؤولية أزمات المجتمع الفرنسي في ذلك الوقت، أو بعضها على الأقل. قبل ذلك، حرّض دعاة تفوق العرق الأبيض في الولايات المتحدة على العمّال الصينيين وقاموا بسن عدة قوانين ضدهم بوصفهم تهديدًا لنقاء المجتمع واستقراره.
يحضر الآخر، في كلتا الحالتين، بوصفه تهديدًا قائمًا أو محتملًا. ولذلك تكون كراهيته واجبًا والتخلص منه سبيلًا للخلاص الجماعي. هذا ما يسمّيه بانكاج ميشرا "تجارة كراهية المهاجرين والأقليات وكل ما قد يوصف بـ(الآخر)". ومع أنها قديمة كما يتضح في الفقرة السابقة، إلا أنها أصبحت سمة أساسية من سمات القرن الحادي والعشرين، إن لم تكن أبرز سماته على الإطلاق.
لا يمكن فهم هذه "التجارة" بمعزل عن استغلال بعض السياسيين الغوغائيين والفوضويين لحالة الاحتقان والغضب الشعبيين للبروز سياسيًا، ذلك أن خطابهم الذي قد يتعارض مع خطاب السلطة، ويزايد عليها في كراهية الآخر (عمّال ومهاجرون ولاجئون)، ويحمّله مسؤولية معاناة الناس الذين يعدهم بالتخلص منها عبر التخلص منه؛ يكون في ظل الأزمات جذّابًا بما يكفي ليتحول إلى قناعات لدى فئات ستسعى إلى إيصال أصحابه إلى السلطة، وهذا في حال وجود نظام حكم ديمقراطي.
لا يثير ترحيل الآخر أو طرده، سواء كان لاجئًا أو مهاجرًا، النشوة التي يثيرها الاعتداء عليه وإهانته
المفارقة أن هؤلاء يحتاجون إلى الآخر بمقدار رغبتهم في التخلص منه لأنه أساس خطابهم ووجودهم السياسي، والحالة المتطرفة التي يمثلونها، وسبب التفاف البعض حولهم. ولذلك، فإن غيابه يترك فراغًا يصعب سدّه لأنه ما يبرّر وجودهم ويمنحهم ما يمكّنهم من الظهور والبروز في المشهد، عدا عن أنه أساس برامجهم السياسية ووعودهم الانتخابية التي تتمحور، في معظمها، حول الخطر المزعوم الذي يمثّله.
يَعد السياسيون الفوضويون والشعبويون الناس بما لا يمكن تحقيقه، أو بما يمكن تحقيق جزء بسيط منه. فالأولوية بالنسبة لهم ليس تحقيق وعودهم بل إبقائها حية وقادرة على جذب الناقمين على السلطة والوضع الراهن لأطول فترة ممكنة.
ولذلك، نجد أن الإجراءات المُتخذة بحق الآخر والمتعلقة بترحيله أقل من حجم الحملة التحريضية ضده. فالتحريض، لا الترحيل، هو ما يمدّ هؤلاء بأسباب البقاء والقدرة على المزايدة على السلطة وتقديم أنفسهم بديلًا لها. والسلطة ذاتها ترى في الآخر، في الوقت نفسه، مخرجًا من مسؤولياتها تجاه أزمة ومعاناة شعبها عبر تحميله مسؤوليتها.
وما يتضح من حملات التحريض ضد الآخر، في مختلف الدول وعلى اختلاف الأزمنة والسياقات، أن الاعتداء عليه وإهانته وقتله أحيانًا، يثير لدى هؤلاء، ساسة وعامة، من النشوة ما لا يثيره ترحيله وطرده. وما يحدث في إحدى الدول العربية التي تستضيف لاجئين من دول عربية أخرى، مثال على ذلك.
يملئ الآخر أيضًا فراغًا يحول بين الصدامات/الصراعات الداخلية سواء بين السلطة والشعب، أو بين مكونات الشعب نفسه. سيسيل روس رأى أنه على من يريد تجنب الحرب الأهلية أن يكون إمبرياليًا. هذه وصفة راجت في القرن التاسع عشر بحسب بانكاج ميشرا. ولكن في القرن الحادي والعشرين، فإنه على من يريد تجنب هذه الحرب، أو حتى ما هو أقل منها، أن يكون عنصريًا معاديًا للمهاجرين والأجانب عمومًا.
أمام هذا الواقع المركب، تتعدّد صور حضور الآخر والوظائف التي يؤديها رغمًا عنه ودون إرادته، فيكون مخرجًا لحكومة فاسدة تحمّله مسؤولية معاناة شعبها لكي تنأى بنفسها عنها، ووسيلة لسياسيين فوضويين وشعبويين لحجز مكان لهم في المشهد السياسي من خلال معاداتهم والتطرف في تحميلهم مسؤولية معاناة الناس، عدا عن أنه ما يتيح لفئات مهمشة فرصة الخروج من دائرة التهميش من خلال الانضمام إلى حملة التحريض ضده والمبادرة إلى إذلاله وإهانته.