نحن نتحدث ونكتب ونتعرف على العالم والمحيط في غياب أوجاعنا. شرط الابتسامة العريضة على وجوهنا ونحن نستعد لأخذ صورة أمام معلم تاريخي أو معاصر أن ننسى في تلك اللحظة من نحن. وأن نكرم أنفسنا للحظات قليلة بوصف هذه الأجسام خالية من الأوجاع.
الوجع هو الحال التي يختبرها المرء فتعيده بسبب سطوتها كائنا غير ناطق. وأغلب الظن أن لغاتنا ومتعنا وأفكارنا ولدت في تلك المراحل التي عشناها في صمت أجسامنا. نكون قادرين على التحدث أو الكتابة أو التواصل مع الآخر في اللحظة التي تكون أجسامنا فيها صامتة صمتا مطلقا. وليست الغواية إلا رأس جبل هذا الصمت. ذلك أن الجسم المغوي هو جسم غفل رأسه عنه. جسم نتأمل تفاصيله في اللحظة التي يغفل فيها صاحبه قصدًا أو عفوًا عن مراقبته. الغواية في هذا المقام هي الاحتفاء بصمت أجسامنا. احتفاء نريد التأكيد من خلاله أن هذا الصمت ليس من طبيعتها على نحو دائم، وأنها، أي هذه الاجسام المغوية، تستطيع إذا أتيحت لها الفرصة وناسبها المزاج أن تصبح ناطقة.
يحدث لاحقًا أن نصف الألم. نصنع لمراحله وتحولاته أسماء تخصه. لكن هذه الأسماء وذاك الوصف، أعجز من أن يصف الألم أو حتى الوخز العابر
لكننا في اختبار الوجع نكون أقل من ذلك. اختبار الوجع هو امتحان للسان. لا نعود ناطقين، ذلك أن ما يؤرقنا ويشغلنا ويحكمنا في لحظة الوجع ليس ناطقًا لنحاوره، وليس آخرا لنطرده من أفكارنا وتهويماتنا. الوجع هو نفسنا الحقيقية. لكنها النفس التي تكتشف أن الجسم سيد والمتع خادعة. وليس ثمة ما يعبّر الجسم من خلاله عن نفسه، أصدق تعبيرًا من حالته حين يستبد به الألم. نريد أن ننام، أن نستلقي هكذا بلا سبب، ونمضي أعمارنا في استلقاء مديد. وحين يعبر الجسم مرحلة الألم إلى مرحلة التعافي فإنه يداوم على سكونه وألفته لزمن غير قصير. الألم يعلمنا أن نصغي إلى همس أجسامنا. في أي قيعان قصي تقع لغاتها، وكيف يمكن فهمها. نكرر الإنصات إلى أجسامنا لكي نتأكد أن هذه الغصة العابرة، أو تلك الوخزة المفاجئة ليست امتدادًا للوجع الذي أبكمنا، أو جزءًا من تداعياته.
يحدث لاحقًا أن نصف الألم. نصنع لمراحله وتحولاته أسماء تخصه. لكن هذه الأسماء وذاك الوصف، أعجز من أن يصف الألم أو حتى الوخز العابر. ذلك أن كل ما نختبره في حيواتنا قابل لأن نتذكره أو نحلم به في مناماتنا، إلا الألم، فهذا يحضر كاملًا ويغيب كاملًا. وحين يحضر ندرك أن أجسامنا ليست طوع رؤوسنا، وحين يغيب ننسى أننا تعلمنا منه هذا الدرس.
باختبار الألم، نكتشف أننا في قاع قراراتنا لسنا كائنات اجتماعية. المتألم لا ينشد مواساة، ولا لمسة حنان. أملنا في أننا ذات يوم سنستعيد لغتنا هو ما يجعل لمسة الحنان وكلمات المواساة مجدية وذات معنى. لكننا حين يستبد بنا الألم ندرك أننا وحيدون. وحيدون إلى الحد الذي يمكننا معه أن نتقبل الموت احتفاء بأجسادنا وسعيا لراحتها.
من افترض إن الموت يعني نهاية الجسد وتحرر الروح، لم يكن قد اختبر ألمًا عميقًا بعد. الأرجح أن الجسد يولد حقًا حين يعصره الألم. قبل ذلك لا نكون أكثر من أرواح حالمة تهيم على صهوات أجسام صامتة.