نشأت في بيت لم تكن فيه مكتبة، سوى بعض الكتب والمجلات المتفرقة: كتاب تاريخ الأدب العربي لحنا فاخوري استعاره أخي من آنسته في اللغة العربية ولم يرجعه، ومناهج التثقيف الحزبي التي كان أخوتي الحزبيون يجلبوها مجانًا، وبعض الأعداد من مجلة العربي الكويتية كان يشتريها أخي من مصروفه، وكتاب في الاقتصاد لا أعرف كيف وجد طريقه إلى بيتنا، فكل اهتمامات أخوتي أعني دراستهم تتعلق بالأدب.
بالنسبة للعائلات الفقيرة، يعدّ شراء الكتب من الكماليات التي بإمكانها الاستغناء عنه
كوني أنتمي لعائلة فقيرة فقد كان شراء الكتب بالنسبة لها من الكماليات التي بإمكانها الاستغناء عنها. في الصف التاسع تعرّفت على مكتبة المركز الثقافي في درعا، وكون أحد أقاربي هو أمين المكتبة فقد أتاح لي استعارة الكتب دون أن أدفع الاشتراكات، على أن أعيد الكتاب في الوقت المحدد. وهنا بدأت حكايتي مع الكتب فبدأت وبحسب توصية قريبي أمين المكتبة برواية زوربا للكاتب اليوناني كازنتزاكي، وقد استمتعت بهذه الرواية كثيرًا حتى أنني في هذه الأيام أرغب بإعادة قراءتها. اقرأ/ي أيضًا:
اقرأ/ي أيضًا: يد في ألمانيا تقلّب على الشاشة كتابًا في سوريا
وبما أننا مفطورون على حب التملك، وددت أن يكون لي مكتبتي الخاصة، فصرت أبحث عن الدوريات العربية أو السورية على قلتها التي توزع كتبًا مجانية مع أعدادها الشهرية، فضيق ذات اليد لم يسمح لي شراء الكتب، حتى أن صاحب المكتبة التي كنت أتردد عليها، كان يعرفني، ويحتفظ لي بعدد من هذه الدوريات. لكن معظم الكتب المجانية لم تروِ تعطشي للقراءة.
أذكر أن صحيفة تشرين السورية، وهي إحدى الصحف الثلاث الوحيدة في ذلك الوقت، أصدرت على مدار سنوات "كتاب في جريدة"، ضمن مشروع ثقافي رائد طرحته منظمة اليونيسكو، ومن خلال هذا المشروع تعرفت على إبراهيم الكوني، وسعد الله ونوس، وأنسي الحاج، وقاسم حداد، ومهدي الجواهري.. وعند دخولي الجامعة سرت على خطا أخي، وأصبحت مداومًا على شراء مجلة العربي، وكذلك كتاب مجلة المعرفة، و"سلسلة المسرح العالمي" التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون في الكويت، وبما أن دراستي تتعلق بالأدب العربي فقد كان للكتب حيز مهمًا ضمن اهتماماتي وأولوياتي. وخصّصت مفكرة لكتابة أسماء الكتب التي أود شراءها حين أتخرج، ويكون لي دخل محترم.
المفاجأة أنني اكتشفت حين دخولي للجامعة أن كتاب "تاريخ الأدب العربي" لحنا الفاخوري لم يكن مصدرًا يُعتد فيه لدارسي الأدب، مع أني قرأته أكثر من مرة من "الجلدة إلى الجلدة"، ومعه تنقلت في صحارى الجزيرة العربية مع عنترة بن شداد وامرئ القيس، ومعه تلصصت على حب جميل بثينة ومجنون ليلى العذري.
بما أن دراستي كانت في دمشق فقد كنت زبونًا شبه دائم على بسطات الكتب في منطقة الجامعة، والحلبوني، وجسر سيئ الذكر. وهناك كنت أقضي جلّ وقت فراغي، مع أن معظم العناوين الموجودة كانت عن الشيوعية، ولينين، ونزار قباني وجبران خليل جبران والمنفلوطي، وهي ما لم يكن تشبع تعطشي لعناوين قرأت عنها في مجلة العربي، أو في هوامش كتب الجامعة، أو وردت في محاضرات النقد وعلم الجمال وفقه اللغة.
مشروع "كتاب في جريدة" من المشاريع الثقافية الرائدة على مستوى تشجيع القراءة في العالم العربي
مع ذلك ورغم الفقر والسعي لتأمين أولويات الحياة، كوّنت مكتبة صغيرة، ألجا إليها حين تجتاحني الرغبة بالمعرفة، واحتفظت بهذه الكتب في صندوق حديدي.
اقرأ/ي أيضًا: قارئٌ منفي وإستراتيجياته
حين بدأت الثورة وأجبرنا على اللحاق بحلمنا، تركت صندوق كتبي في سوريا، ولم أحمل معي منه شيئًا سوى الذكرى الموجعة، وبعد دخول قوات النظام السوري إلى بيتنا لم يبقوا شيئًا إلا وعفشوه، لكن ذلك الصندوق لم يتم تعفيشه، وتم حرقه بما فيه. وهكذا لم تبق في بيتنا مكتبة ولا حتى كتب متفرقة، فأمي حرقت كتب المنهاج الحزبي وصنعت خبزًا على الصاج، وربما هي الفائدة الوحيدة التي نلتها من هذه الكتب العفنة.
اقرأ/ي أيضًا: