خلال زيارة لمنزل إحدى قريباتي في سوريا (كان ذلك قبل الثورة)، ارتدت ابنتها، الصبية الصغيرة، ثيابها وهمت بالخروج لحضور حفلة مع صديقاتها، فوبختها أمها لأنها اعتبرت أن الثياب التي ارتدها البنت قصيرة، وأجبرتها على ارتداء غيرها! في هذه الأثناء كانت قريبتي/الأم تعلق في صدر البيت، في غرفة الاستقبال حيث كنا نجلس، صورتين: منفردة لها وأخرى مع صديقاتها، في الصورتين كانت هي وصديقاتها يلبسن ثيابًا قصيرة جدًا، كانت تسمى في فترة الستينات "ميني جوب". وهي موضة شاعت واشتهرت وانتشرت في العديد من دول العالم، من بينها سوريا.
بعد الاستقلال السوري، كانت الأفكار السائدة في المجتمع هي الأفكار الليبرالية
كانت الصبايا يلبسن ذلك الزي ليس في دمشق فقط، بل حتى في المناطق الصغيرة كالمنطقة التي نشأت فيها، وكان عامًّا، ترتديه النساء ليس في الحفلات فحسب، بل في المشاوير والتنزهات اليومية أيضًا. فقلت لقريبتي: كيف تمنعينها عن لباس تحبه، وأنت كنت ترتدين تلك الثياب كما في الصور دون أية عقدة اجتماعية أو دينية، أو أية حسابات أخرى؟ فردت وكأنها فكّرت بالموضوع من قبل: أيامنا نحن مختلفة عن أيامها هي وجيلها. أيامنا لم يكن أحد يتدخل في شؤون أحد بالقدر نفسه السائد اليوم، وأيامنا لم يكن ثمة تحرش، أيامنا كنا مرتاحين... هذه الأيام مختلفة.
اقرأ/ي أيضًا: حافظ الأسد.. ذاكرة الرعب
بدت حجتها، من حيث تفضيل تلك "الأيام" عن هذه، ومن حيث اختلاف تلك "الأيام" عن هذه، منطقية بالقياس إلى الواقع الناشئ. فالسؤال هنا هو: ما الذي تغير؟ ولماذا؟
بعد الاستقلال السوري، كانت الأفكار السائدة في المجتمع هي الأفكار الليبرالية، والماركسية والقومية.. وكان الإسلام السياسي في أدنى مستوى من مستويات حضوره في المجتمع السوري.
عام 1949 نجح واحد فقط في انتخابات البرلمان في دمشق هو مصطفى السباعي، لكن وفق المرويات السورية فقد نجح ليس لأجل إخوانيته، بل لأجل شخصه، فقد كان محترمًا في الأوساط الدمشقية. لكنني أعتقد أن هذا ليس سببًا (أو أقله، ليس سببًا كافيًا) لحدوث تلك النقلة النوعية للمجتمع السوري بين مرحلتين حاسمتين في تاريخ البلد: الاستقلال، وحكم حافظ الأسد. وهما مرحلتان متمايزتان، واضحتان لا مجال للالتباس بتحديدهما تاريخيًا. الأولى تبدأ من خروج الاستعمار الفرنسي مع ما يعنيه ذلك من بدء قيام المجتمع السوري ببناء نفسه اعتمادًا على قواه الذاتية، المحلية. والثانية تبدأ من انقضاض الأسد على تركة جيل الاستقلال وما بعده انقضاضًا، كما بات يعرف السوريون، كاملًا. هما مرحلتا: الديمقراطية، والدكتاتورية.
وهنا يكمن السبب في ذلك التغيير الجوهري وليس مجرد الأفكار. فالأفكار تؤثر بالناس والمجتمعات لكن بعد زمن قد يطول من جانب، ومن جانب آخر يتخذ تأثيرها شكل الحفر البطيء الذي يشبه حفر الآثاريين.
مرحلة الاستقلال وما بعدها اتسمت ببدايات جادة لتنمية شاملة (وفق إمكانات البلد آنذاك وظروفه). نتذكر المراسيم التشريعية التي أصدرها خالد العظم، رئيس الحكومة السورية في الخمسينات، خلال شهرين فقط من العام 1950؛ الأول: إحداث واستثمار مرفأ بحري في اللاذقية، الثاني: إحداث مديرية عامة للجمارك، الثالث: حق الدولة السورية في إصدار النقد السوري الذي بموجبه أصدرت الدولة أول عملة نقدية خالية من اسم فرنسا عليها، كتعبير عن استقلال سوريا... ولما كان ذلك لا يكفي لتنمية البلد دون الشرط اللازم والضروري لتتمكن التنمية من السير، كان من الضروري الحفاظ على الديمقراطية وتنميتها والدفاع عنها، وجميعنا يعرف أن تلك الفترة اتسمت بمنافسات قوية بين الأحزاب السياسية وبين الكتل البرلمانية وبين الأشخاص خلال الانتخابات البرلمانية، إضافة إلى حق التعبير المكفول بالدستور وبالقوانين وبالنهج الديمقراطي وبوسائل الإعلام التي كانت مزدهرة على نحو باهظ في سوريا ما بعد الاستقلال.
قضى حافظ الأسد على مظاهر التحضر السوري بكل ما أوتي من صلف وقوة وإرهاب
في هذه الأجواء المشحونة بالتطلع والطموح والأمل، تعمل العادات والتقاليد القاسية في أدنى مستوياتها، حيث لا مجال للناس لمتابعة ذلك، فهم إما منخرطون في التنمية أو متأهبون لذلك. كما أن الدين، بوصفه فقهًا لا علاقة إيمان فردية، ينحسر ويأخذ مكانه الطبيعي فيما وُجد لأجله: الإيمان والعمل الصالح... من هنا فحركة الناس تكون تقدمية، باتجاه المستقبل، لا نكوصية باتجاه الماضي، إذ، وهذه النقطة المهمة، ثمة أمل للناس بالمستقبل. هذه المناخات تجعل الناس تفكر بالطريقة التي نسميها الآن: منفتحة، أي غير متزمتة لا اجتماعيًا ولا دينيًا. في هذه المناخات يكون من العسير على الأفكار الرجعية والنكوصية أن تتغلغل في المجتمع كأفكار الإسلام السياسي مثلًا، لذلك فحتى الإسلام السياسي يكون/ وقد كان آنذاك مراعيًا لهذه الوضعيات إن لم يكن لمصلحة وطنية عليا، فعلى الأقل لضمان وجوده. فالأفكار كالنباتات تحتاج إلى تربة ومناخ مناسبين للنمو.
اقرأ/ي أيضًا: دمشق التي لي
المرحلة الثانية هي مرحلة حافظ الأسد. المراحل السابقة التي سادت فيها دكتاتورية من نوع ما، تم التخلص منها من قبل السوريين بسرعة. أديب الشيشكلي اضطر لترك السلطة تحت ضغط شعبي: مظاهرات في شوارع سوريا. وتم التخلص من فترة الوحدة مع مصر التي بدأت حضورها عبر حل الأحزاب وتقييد تشكيلها، ومنع الصحافة من التعبير وإغلاق الكثير منها، حتى حزب البعث الذي توصل إلى السلطة عام 1963 لم يكن مستقرًا سياسيًا على نحو كامل، فقامت حركة 23 شباط/فبراير 1966 كحركة انشقاق كبيرة، وقد أتى حافظ الأسد في انقلابه 1970 على هذه الخلفية، وكان المبرر السياسي الذي ادعاه هو: حركة تصحيحية للنهج السياسي لحزب البعث الحاكم.
مع وصول الأسد إلى السلطة قام بكل ما يلزم لدكتاتور لحفظ حكمه: تعطيل التنمية عبر فتح الأبواب لعمليات الإثراء للمقربين منه، من خلال عمليات التهريب وفرض الأتاوات على التجار لتمرير بضائعهم من مرفأ اللاذقية، فأنشئ لذلك ما سمي بشركات التخليص الجمركي، مثل "شركة الساحل" لجميل الأسد. كما منع حرية التعبير وتشكيل الأحزاب ومنع افتتاح صحف ومجلات حتى لم يعد في سوريا سوى الجرائد الثلاث المعروفة... الأمر الذي وضع الناس في خيارات شبه معدومة، أو أنها بالفعل معدومة. ازدادت نسبة العاطلين عن العمل وازدادت نسبة الفقراء على نحو مريع، يكفي أن نعرف أن دخل الفرد في العام 1960 ارتفع إلى نحو 80%، ووصل في العام 1970/ قبل وصول الأسد إلى السلطة بفترة وجيزة إلى 336%، وفي العام 1980 تراجع على نحو مخيف ليصل إلى 33%، أي أقل بحوالي الثلثين مما كان عليه قبل عشرين عامًا! وأقل بأضعاف كثيرة مما كان عليه قبل عشر سنوات.
وأعطى الصلاحيات لرجال الأمن باستباحة الناس وحرماتهم على نحو مفتوح بالكامل، دون أية ضوابط، فغصت سجونه بالمعتقلين، أصحاب الرأي المخالف، وبمعارضيه السياسيين.
في هذه الأجواء شديدة الوطأة، يحدث نكوص لدى الناس، وتعود العادات والتقاليد بطبيعتها القاسية للظهور والعمل، ويتحول الدين من طبيعته الإيمانية إلى الشأن الفقهي الذي يتدخل في شؤون الناس اليومية، وتصبح هذه الإمكانات هي المتاحة أمام الناس وهي المسموح لهم بالتعبير عنها.
في هذه الأجواء الفاقدة للأمل، أجواء انغلاق أي باب محتمل للمستقبل، يتحول مستقبل الناس إلى المكان الميتافيزيقي، ما بعد الواقع وما بعد الحياة: الآخرة هنا.
في ظل فقدان الأمل وانغلاق أي باب محتمل للمستقبل، يتحول مستقبل الناس إلى المكان الميتافيزيقي
في هذه الأجواء يصير من السهل تغلغل الأفكار الرجعية والنكوصية في المجتمع، وحتى لو لم يقتنع الناس بها فإنها السبيل الوحيد أمامهم لمتابعة العيش وللتعبير. لكن ذلك لا يكون دون مساعدة من النظام القائم، لقد سهّل حافظ الأسد ورعى هذه الأفكار وفرضها على الناس فرضًا، ثم جاء نظامه الثقافي واتهم الناس بالتخلف! لقد سادت وماجت "القبيسيات"، على سبيل المثال، في سوريا بكل حرية! لقد قضى حافظ الأسد على مظاهر التحضر السوري بكل ما أوتي من صلف وقوة وإرهاب.
انطلاقًا مما تقدم، وبالعودة إلى صورة العائلة تلك، نعرف لماذا وكيف صارت "أيامهم" أفضل من "أيامنا"، ولماذا كانوا "مرتاحين" فيما نحن منهكون هكذا.
اقرأ/ي أيضًا: