عندما يشتهر كاتب عربي نستبشر خيرًا لظنّنا أنه ربما يلعب دورًا ثقافيًّا في هزّ وعي الآخر، من خلال تحريضه على أن ينظر من خارج ما اعتاد عليه، وأن يدفعه ليفكر خارج صندوق منطقه الدائم.
إلى جانب تفاؤلنا في أنه سيلعب دورًا في نشر أدب بلاده في الدول التي تبدأ بالقراءة له، والإصغاء إلى آرائه في الأدب والحياة والاجتماع.
يستهجن كثيرون في الغرب وجود أدب وثقافة باللغة العربية، لأنهم يظنون أن هذه اللغة لا تصلح لغير التدين والتطرف والانفعال
يجد ذلك التفاؤل صداه في الدور المحوريّ الذي لعبه غابرييل غارسيا ماركيز ونوبله في تسليط الضوء على الأدب في دول أمريكا اللاتينية، ليس لجهة نشره في أرجاء العالم، بل أيضًا في التأثير في حركة الثقافة والأدب محليًا، مثل تعاون الكتّاب هناك على إطلاق تيار روائيّ حول الدكتاتور والدكتاتورية، ناهيك عن دورهم في تقديم صوت آخر، يتصدى للإمبريالية الأمريكية وللمركزية الثقافية الغربية، عبر دعم حركات التحرر في العالم، والتأكيد على أهمية التنوع الثقافي، وعلى ألا تكون حركة الأفكار في اتجاه واحد، من فوق إلى تحت، من القوي إلى الضعيف وحسب.
اقرأ/ي أيضًا: هل سيولد أدب الدكتاتور العربي قريبًا؟
باختصار شديد، لا شكّ أنّ في القارة اللاتينية حراكًا ثقافيًا وفنيًّا على الدوام، لكن شهرة ماركيز وزملائه أخذت ذلك إلى محلّ جعل الأدب الخارج من أي بلد من بلدان أمريكا الجنوبية يغدو تعبيرًا عن هوية قارة كاملة.
على المقلب الآخر، نرى الكاتب العربي الذي يُحقّق شهرةً في أيامنا، مهما كان حجمها، يبدأ بالتعامل معها بوصفها إنجازًا شخصيًّا، ينحصر بموهبته وألمعيته وحسب، وبالتالي نراه يُوقف جهده لأجل المحافظة عليها كي تبقى متوهجةً، دون أن يسعى إلى جعلها طريقًا لتسليط الضوء على الأدب في لغته، أو في بلده على الأقل، بل كثيرًا ما يصرّ على الحضور من حيث كونه فريدًا واستثنائيًا، قادمًا من عالم عادي لا يُنتج أدبًا أو فنًّا، لأن هذا الكاتب المشهور لا يمكن أن يتحدّث عن أحد ممن يعاصرونه، وإن اضطر إلى ذلك ستراه يذهب باتجاه الإشادة بكتّاب موتى.
مثل هذه الحالات هو ما يجعل الصور النمطية تزداد قوةً، لأن هؤلاء يظنون أنهم في تأكيدهم عليها يكتسبون شرعيةً في نظر المركز، فهم مثله ملحدون في عالم مؤمن، ومنفتحون في مجتمعات مغلقة، وحديثون في واقع متخلف، دون أن يكون للخصوصية الثقافية أي معنى. هم مجرد استمرار للثقافة المركزية. لا يختلفون عنها سوى أنهم يكتبون بلغة أخرى. لهذا كثيرًا ما يلقى وجود أدب وثقافة باللغة العربية استهجانًا لدى كثيرين في الغرب، لأنهم يظنون أن هذه اللغة لا تصلح لغير التدين والتطرف كموقف من العالم، أو للغضب والانفعال للتعبير في الحياة اليومية.
تكمن المعضلة في أن كاتبنا يحصل على امتياز أنه يغدو مسموعًا، لكنه لا يقدم مساهماته الخاصة في قول ما لا يقوله الإعلام الغربي، ولا يجعل نفسه مُعبّرًا عن الثقافة المظلومة، بل يترك كل ذلك جانبًا وينشغل بالحديث عن نفسه، جاعلًا من تلك الشهرة، كُبرت أو صُغرت، فرصة للتأكيد على استثنائيته وحسب.
عند هذا الحد يجب أن ندرك أن ما أوصله إلى ذلك هو مسار طويل من العلاقات المفيدة، والذكاء في اقتناص الفرص وتحويلها إلى حقائق ملموسة، والعمل الدؤوب على فهم آليات الجوائز من أجل الفوز بها. ولأن هذا طريق محفوف بالتنازلات الأخلاقية نشعر، مع الأسف العميق جدًّا، أننا أمام رجل أعمال لا كاتب.
لدينا اعتقاد أن المجال مفتوح دائمًا أمام ظهور خالد حسيني جديد، في مقابل متاريس وحواجز هائلة تحول دون ظهور ماركيز آخر
من جهة الغرب، هذا الكاتب العربي مثال مصغّر عن الأفغاني خالد حسيني. بمعنى أنه مناسب لمنح الثقافة المهيمنة كميةً كافيةً من راحة ضمير، كونه يقدم صك براءة يؤكد أن أساس مشكلة بلاده كامنة في بلاده نفسها، لجهة كونها غارقةً في الدين، ولجهة تسيّد المتدينين الذين يظلمون النساء ويفرضون قوانين من عصور بائدة. يمكننا تسمية هذا النوع من الأدب بالكتابة الآمنة، إذ يتم اختيار المواضيع المثيرة والحسّاسة للغاية، لكنها تُقدم بطريقة لا تُدين القويّ أو تقف في موقف مواجهة معه. فموضوع مثل قهر النساء الأفغانيات يُربط بسهولةٍ بالإسلام، لا بتدمير بلد، ولا باستباحة كرامة أهله، من أجل حيازة مواقع استراتيجية متقدمة في صراع دوليّ، الأمر الذي يجعل من المتطرفين الذين يمثّلون قوة الرفض الوحيدة يحققون سيطرة على مصير البلد والناس، في محصلة أخيرة لسياسات قهرية قديمة وبعيدة.
اقرأ/ي أيضًا: البوكر.. دعوة إلى المراجعة
تجب الإشارة هنا إلى أن الحديث عن خالد حسيني يقصده بوصفه مثالًا للمثقف المذعن، لا كمنتج حكايات وشخصيات هائل الإبداع.
كثيرًا ما يحصّن هؤلاء الكتاب أنفسهم ضد هذا النقد بأنهم لا يكتبون أيديولوجيا، بل يكتبون الحياة ويهتمون بالقضايا الفردية. دون أن يخطر لهم أن هذا الحياد الذي يأتي على شكل تبرير هو في عمقه إذعان للشروط الإمبريالية. وأما عن الأدلجة فيمكن أن نقدم لهم كتابات محمود درويش والطيب صالح، وغيرهما بالطبع، وهي ترسم حياة شعب كما هو، وكما يرغب، دون أن تكون هناك أية تهم أيديولوجية.
ندرك جيدًا أنه ليس بوسع هؤلاء الكتّاب تغيير السوق الرأسمالي، فهو محصّن بالمال والدعاية ضد الاختراق، ومستعد لتمرير المقبول من وجهة نظره فقط. لكننا في المقابل لا نستطيع تقدير مشاريع يتساوق أصحابها مع شروط هذه السوق، ولا يبدون الشجاعة الكافية لنقد ذلك وإظهار جوره.
لهذه الأسباب كلها لدينا اعتقاد أن المجال مفتوح دائمًا أمام ظهور خالد حسيني جديد، في مقابل متاريس وحواجز هائلة تحول دون ظهور ماركيز آخر.
اقرأ/ي أيضًا: