عقب اندلاع احتجاجات السوريين المنادية بالحرية والكرامة للخلاص من الحكم المافيوي الذي تقوده عائلة الأسد، استمات إعلام النظام لدحض سردية الناس عن الحرية، عن حقهم بكسر احتكار آل الأسد للسياسة من حيث كونها ميدانًا يتم فيها تقرير مصائرهم كما مصائر أبنائهم من بعدهم، ليستبدلها بسرديته القائمة على فكرة المؤامرة الكونية التي تم تدبيرها لنظامه الممانع من قبل أعدائه التاريخيين، الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل وحلفائهما من العرب الرجعيين، في تساوق عجيب ومدهش مع أعداء الداخل من الإرهابين الأصوليين أصحاب الأجندات الدينية المتطرفة المقدر عددهم بالملايين.
في قاطرة الداخلين إلى حضن الوطن بزّ سلوم حداد الجميع بطريقة الاعتراف العلني والمشهدي الذي أصر على تقديمه لنا على قنا "سما"
من أجل تكريس هذه السردية في أذهان مواليه بقصد رصّ صفوفهم للمشاركة في إفشال هذا المخطط الشيطاني، كان على ذلك الإعلام السلطوي المتخشب أن يستنجد بكل من له قدرة على الكلام في دولة الخوف، التي حرصت طيلة تاريخها على عدم ظهور أي شخصية ذات مقدرة خطابية وحضور كاريزمي قد تبز بطلاقتها ومنطقها الحصيف والسليم، حتى ولو عن غير قصد، منطق الرئيس المتأله صاحب اليد العليا في كل شيء، سواء كان ذلك في فن الخطابة أو الإقناع، فلم يجدوا أمامهم سوى بعض المتحذلقين من أعضاء مجلس الشعب التي شاءت الظروف أن يتملكوا قدرة فطرية على الحكي من أمثال المدعو خالد عبود، ومن لف لفه من رجال الدين وفناني الدراما التلفزيونية.
اقرأ/ي أيضًا: باسم ياخور في برنامج "أكلناها".. الانحدار نحو القبح والتفاهة
إذا كان من المفهوم والطبيعي أن يستنجد إعلام النظام برجال الدين المحسوبين على سلطة آل الأسد كالشيخ البوطي ومن في مقامه، لأنهم الأكثر قدرة من الناحية الفقهية على دحض شرعية تكتيك المتظاهرين في استخدام الجامع كنقطة انطلاق في احتجاجاتهم، كما تذكيرهم بحرمة فعل التظاهر أو الاحتجاج ذاته على سلطة ولي الأمر كونه يتعارض مع فلسفة السياسة الشرعية، التي تقول بجواز القبول والخضوع لسلطة حاكم الأمر الواقع القوي ما دام يجيز لمحكوميه إمكانية ممارسة الشعائر الدينية الخاصة بهم. إلا أن استنجاده بممثلي الدراما التلفزيونية لا يمكن رده إلا لاعتقاد ساذج، عند المشرفين على هذا الإعلام، بقدرة الفانيين أصحاب الحضور الشعبي على التسويق لسردية النظام وإقناع المعارضين كما الموالين بدرجة معقوليتها، وهي سردية لا يمكن التسويق لها من قبل أي كائن عاقل كونها تنهض على كل ما يخالف الحس السليم الذي يقول إنها حركة احتجاجات سلمية ذات مطالب شعبية محقة.
لذا رأينا الإعلام في بداية الأحداث، خاصة بعد خطاب 30 آذار/مارس الأسدي الذي توعد بوضع الرماديين في سلة واحدة مع المتمردين، يلجأ لملاحقة كل ما يتسنى له ملاحقته بقصد جره للتطبيل والتزمير لسياسته اللاعقلانية، الأمر الذي اضطر الفنانين الذين لا يتفقون معه بالرأي بتولية وجوههم وأدبارهم عن عسف سلطته الاستبدادية، التي تبنت شعارًا استئصاليًا حيال كل من يخالفها الرأي أو يرغب بالوقوقف على الحياد ولسان حالها يقول: "كل من ليس معنا فهو ضدنا".
مع بداية تحوّل المعركة لصالح النظام قرّر بعض الفنانين، الذين نأوا بأنفسهم عن النظام أو اتخذوا موقفًا معارضًا من سياساته، سواء لاعتقادهم بصوابية هذا الموقف أو ليقينهم بأن أيامه كانت معدودة، العودة إلى أحضان هذا النظام فاشترط عليهم القيام بتقديم اعتذارعلني يظهرون من خلاله مشاعر الشعور بالذنب حيال جريمة الحياد أو التشكيك بمشروعيته الوطنية، مضافًا إليها التزام وتبني غير مشروط لسرديته المتهافتة عن العصابات الأرهابية المسلحة المنخرطة في المؤامرة الكونية لهدم هيكل نظامه العادل.
في قاطرة الداخلين إلى حضن الوطن بزّ سلوم حداد الجميع بطريقة الاعتراف العلني والمشهدي الذي أصر على تقديمه لنا على قنا "سما" المملوكة لرامي مخلوف، حيث ظهر الرجل باكيًا لاطمًا عبر مونولوج طويل من الفخر بسوريته، سورية البراميل المتفجرة والمسلخ الجماعي، مصرًّا على كونه صاحب نبوءات تفيد بنصر السلطة على محكوميها العاثري الحظ، والحال ما دام لديها (أي السلطة) مثل هؤلاء الجنود الأشاوس الذي لا يهابون الموت، دون أن تفوته فرصة التسبيح بعظمة القيادة الأسدية الرحيمة متوسلًا لصدق مشاعره اللهجة الشعبية الصادرة من القلب "القيادة رحيمة مو مثل ما بيصوروها إنو قيادة سفاحة، والله إذا تنزل ليفرموك، مو مطلوب منك غير إنك تكون مواطن وطني، ما بدهم منك أكثر من هيك".
فجأة قرّر عابد فهد أن يعبّد طريق عودته الوعر إلى دمشق عبر تقدمه بقربان رمزي من العيار الثقيل، شاء له أن يمر عبر جائزة "الموريكس"
أما الفنّان سامر المصري الذي كان يتنظر في منفاه الاختياري بيان الخيط الأبيض من الأسود في مشهد الحرب الكونية الأسدية، قرّر بعد طول انتظار أن ينحاز إلى الطرف الرابح في الحرب، فلم يجد أفضل من الوقوف على الأطلال قربانًا يتقرب به من قلب السلطة السوداء لعلها تصفح عن زلات قلبه الذي خانه على غير موعد، فعمد إلى إطلاق أغنية "بحبك يا شام"، دون أن يتبادر إلى ذهنه أن الشام التي يخطب ودّها ما هي إلا الشام المطوبة لصالح سفاح دمشق الذي يهجع بقلبه الأسود على أحد روابيها.
اقرأ/ي أيضًا: بيان زهير عبد الكريم.. سُعار المرابع
عابد فهد الذي كانت له تصريحات نارية عن السلطة الأسدية في بداية الأزمة إلى الدرجة التي نفى عنها أي مشروعية سوى مشروعية القوة والدم، فجأة رأى أن يعبّد طريق عودته الوعر إلى دمشق عبر تقدمه بقربان رمزي من العيار الثقيل، شاء له أن يمر عبر جائزة "الموريكس"، التي نالها عن دوره في مسلسل "الطريق" الذي أخرجته المخرجة رشا شربجي، وتم عرضه في موسم رمضان لعام 2018، حيث قال: "أهدي هذه الجائزة، للذين ضحوا، ووقفوا وقفة وطن واحد، لجيشنا السوري والجيش اللبناني الذي وقف مع سورية وقفة عز".
في مقاربته للأحداث التي عصفت بسوريا فضّل عابد فهد مقاربتها عبر مفهوم الحرب، ولكن بدلًا من أن يعرّفها من حيث كونها حرب النظام ضد الشعب السوري، كون الحرب سلوكًا عدوانيًا تقوم به قوة منظمة مدججة بكل وسائل العنف، الجيش وقوات الأمن، بغية فرض الوصاية الاقتصادية والسياسة على الناس المعتدى عليهم، اختار أن ينحاز إلى سردية النظام من حيث كونها حربًا على النظام الوطني المقاوم، وهي سردية تقوم على فرضية متوهمة عن كمال النظام السياسي الأسدي وعدالته الاجتماعية والاقتصادية، ترغب بإقناعنا أن لا دور يذكر لعوامل التناقض الاجتماعي بين فئة طفيلية تتسلط على المجتمع بغية التنعم بالعيش على حسابه، وفئة منتجة محرومة بقوة، العنف العاري المتمثلة بالجيش والمخابرات، من فوائض إنتاجها الاقتصادي والروحي، في أحداث الاعتراض الشعبي العارم على النظام والرغبة باستبداله بنظام أكثر عقلانية ونزاهة واحترامًا لحقوق الإنسان.
الثابت الوحيد في الحرب السورية هو أداته السلطوية المتمثلة بالجيش الأسدي، وهو جيش يفتقر إلى أن يكون جيشًا وطنيًا، كون الوظيفة المناطة به لا تتضمن الدفاع عن الناس السوريين ضد أي عدوان خارجي قد يتهددهم، بقدر ما تتضمن الدفاع عن حق آل الأسد بحكم سوريا إلى أبد الآبدين، وهو هدف لا يخجل الجيش الأسدي من إظهاره على الملأ عبر إصراره على تبني الشعار الاستئصالي الكارثي "الأسد أو نحرق البلد"، ذلك الشعار الذي يفضح طبيعة الذهنية السلطوية التي تحكم عقلية بيت الأسد البدائية، التي لا تتوقف عن النظر إلى السوريين الذين تحكمهم بمنطق الرعايا الذين فرض عليهم العمل العبودي مقابل الإبقاء على حياتهم، فيما تنظر إلى الجيش الذي تتحكم بعقديته السلطوية نظرتها إلى الجنود المرتزقة الذين تعمل على أن تسترضيهم بالمال المعفش والمنهوب من مال وعرق الناس الخاضعين لسلطتها.
الجيش الأسدي كما تجلّى في حربه ضد السوريين هو جيش تطهير عرقي وطائفي، عمل على ترحيل كل من لا يقبل بسلطته إلى منطقة واحدة بقصد القضاء عليهم فيما بعد، جيش جرائم حرب إذ لا تكاد تخلو سيرته اليومية من جريمة أو مذبحة، كما أنه جيش سياسة الأرض المحروقة الذي لا يفرق بين مقاتل ومدني فالجميع عنده إرهابين مؤهلين للإبادة والاستئصال، ناهيك عن كونه جيش الحصار الوحشي الذي لا يتوانى عن استخدام سلاح الجوع كوسيلة لإخضاع اللآخرين، الأمر الذي يضع عابد فهد أمام ضميره في الإشادة بمثل كهذا جيش لا هدف له أو غاية سوى انتزاع أنفاس الحياة من صدور البشر.
تنطوي مقاربة عابد فهد لتوسل الحب كوسيلة أو منهج للملمة نتائج الحرب التي خاضها النظام ضد شعبه على سذاجة منقطعة النظير
تنطوي مقاربة عابد فهد لتوسل الحب كوسيلة أو منهج للملمة نتائج الحرب التي خاضها النظام ضد شعبه على سذاجة منقطعة النظير، فالناس لا يتمردون على شروط عبوديتهم بدافع الحب والكراهية على أهميتها، وإنما بدافع الرغبة بالاعتراف بهم كبشر متساويي الحقوق، فالأصل بالإحتجاج هي الرغبة بتحصيل حق مسلوب من قبل سلطة غاشمة، لأن الدول تُؤسس على فكرة الحقوق المتساوية للجميع لا على مشاعر الحب والنوايا الصافية. إن الدعوة لأن نحب بعضنا البعض لا تنم عن سذاجة وحسب، بقدر ما تنم عن سوء نية تخفي وراءها الرغبة بحجب الصراع الحقيقي، الذي يدفع الناس للخروج على السلطة التي تصر على التعامل معهم كعبيد منقوصي الحقوق والكرامات .
اقرأ/ي أيضًا: عباس النوري متصالحًا مع أكاذيب غيره
تنطوي فكرة العودة إلى حضن الوطن، أي حضن النظام الأسدي، على إقرار مبطن بحلول كل من الأسد والوطن محلّ بعضهما البعض، فكل عودة للوطن هي عودة إجبارية للأسد لأنه المالك الحقيقي له، كما أن كل محاولة لعزله من منصبه كقائد لهذا الوطن هي محاولة للاعتداء على حق أصيل له من حيث كونه مالكًا له. إن كل محاولة تطبيل وتزمير للعودة إلى حضن الوطن والتباهي بذلك هي إقرار صريح من صاحبها بالعودة إلى نظام الطاعة الأسدي، عودة إلى نوع من الحالة البهيمية التي تقصر حياة صاحبها على الطعام والشراب دون أي اعتبار لحقه في امتلاك لمصيره وحقوقه، التي تجعل منه إنسانًا مستحقًا لوجوده منذ اللحظة التي يعي فيها هذا الوجود القائم على الحرية.
اقرأ/ي أيضًا: