يهدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشن حرب على أوكرانيا، إذا لم يستجب الغرب لمطالبه، ويبدد قلق بلاده من توسع رقعة النفوذ الغربي في الجمهوريات التي كانت قبل عقود تدور في الفلك الروسي/السوفييتي. فيما يهدد الغرب بفرض عقوبات اقتصادية مشددة ردًا على أي مغامرة روسية. السلاحان اللذان يستخدمهما الطرفان في هذه المعركة مختلفان زمنيًا. سلاح بوتين هو سلاح يمكن إرجاع تاريخ فعاليته إلى النصف الأول من القرن العشرين. فيما يبدو سلاح العقوبات معاصرًا وراهنًا ولا شك أنه قادر على فرض آثار جمة على مستقبل روسيا.
يبدو سلاح العقوبات معاصرًا وراهنًا ولا شك أنه قادر على فرض آثار جمة على مستقبل روسيا
ما الذي تغير بين القرنين؟ في العقود الأولى من القرن الماضي كانت دوافع الحروب مفهومة، وكانت الحروب التي تحقق نتائجها مجدية ومجزية. الدول التي يمكن احتلالها تشكل بالنسبة للدول التي تحتلها مصادر ثروة واضحة للعيان. في ذلك القرن الذي أصبح بعيدًا جدًا، كانت المواد الأولية، والثروات الحيوانية والنباتية شيئًا يمكن الاعتداد به. وكانت الحرب على هذه الموارد مستعرة في كل مكان. ومن يتسيد على الأرض يمكنه أن يأمن لمستقبل بلاده. هكذا كان الهدف من الحروب إفقار الدولة المستضعفة وسرقة مواردها، ونقلها على نحو سافر إلى الدولة المستقوية. على هذا، كانت كلفة الحرب التي تتكبدها الدول القوية بمثابة استثمار في المستقبل، سيعود عليها ما أن تنتصر وتحتل وتسيطر، أضعافا مضاعفة من الأرباح.
اقرأ/ي أيضًا: ملف أوكرانيا: تحرّكات اللحظة الأخيرة
هذا ما يظهر من شأن الرئيس الروسي وسياسته المستندة إلى معطيات من القرن الماضي. في المقابل، لا تبدو دول الغرب متحمسة للحروب. وردودها على الأغلب ستكون تشجيعًا للشعب الأوكراني ليخوض حربًا غير متكافئة ضد الجيش الروسي يكون من نتيجتها، حكمًا، استنزاف قوة روسيا ومواردها فضلًا عن استنزاف قوة أوكرانيا ومواردها الضئيلة أصلًا. في الأثناء، يستمر الغرب في سياساته المتجنبة للحروب، وفي بحثه المستمر عن السبل الكفيلة بتعزيز ثرواته المعاصرة.
واقع الأمر أن السجال الأمريكي الأوروبي المندلع منذ عقود يتعلق بهذا النقطة تحديدًا. حيث ينتقد الأمريكيون تقاعس أوروبا عن الوفاء بالتزاماتها المالية في حلف الناتو، وضآلة هذه الالتزامات أصلًا، فيما تتخوف أوروبا من التخلي الأمريكي عن الالتزام بأمن دولها، بناء على هذه الحجة. والحق، فإن الانتقاد الأمريكي ينطلق من اعتبارات معاصرة، تتلخص بأن استخدام القوة في أي نزاع لا يعدو أن يكون خسارة صافية، حتى لو كانت الدولة المستهدفة ضعيفة مثلما هي الحال في أفغانستان أو ليبيا مثلًا، فيما تجد أوروبا أن قدرتها على الردع من دون التزام أمريكي جدي تقترب من نقطة الخطر، ما يجعلها قلقة من تعاظم القوة العسكرية للدول التي لا تملك ما تخسره إذا ما تورطت في الحروب. وهذا على الأرجح ما ينطبق على أحوال روسيا أيما انطباق. فروسيا التي تعاني من أزمتين اقتصادية ومعيشية لا تملك ما تخسره إذا ما هددت بإشعال الحروب أو خاضتها. والأرجح أن القيادة الروسية تفكر أن هيمنتها العسكرية على دول مجاورة أو بعيدة قد تكون مفيدة لها في المقبل من الأيام، حين يضطر الغرب المتقدم إلى الاستثمار في هذه الدول في المقبل من السنوات، إذا ما ضاقت أسواق الاستثمار، أو اندلعت أزمات بين دوله والدول التي تستثمر فيها. كما هي الحال الراهنة بين الولايات المتحدة والصين.
فضلًا عن هذه المقامرة المحسوبة، تسلك القيادة الروسية مسلك قاطع الطريق على الدول الغربية، خصوصًا في أوروبا، وهي بسياستها المهددة لاستقرار جوارها واستقرار أوروبا أيضًا، تتوخى أن تحصل على تعويضات استثمارية تمكنها من تخفيف العجز الذي ينوء اقتصادها تحته. وهذه سياسة يمكن القول إننا خبرناها جيدًا في منطقتنا من خلال مراقبة السلوك الإيراني في معظم المنطقة العربية ودولها، حيث تبدي الدول العربية المستقرة والمقتدرة تخوفًا من خوض حرب طاحنة مع إيران، لأن اشتعال مثل هذه الحروب سيترك أثرًا مدمرًا على اقتصاداتها، ولها في نتائج الحرب العراقية الإيرانية أمثولة حاسمة، حين خرج العراق منها منهكًا في الاقتصاد والديون، ولم يجد طريقة أنسب لمعالجة آثارها غير الإمعان في مغامراته الحربية ما أدى في نهاية الأمر إلى هزيمته هزيمة ساحقة.
تدرك الولايات المتحدة أن الخسارة الروسية في هذه الحرب محتمة، وأن العقوبات التي تعتزم فرضها ستخرج الاقتصاد الروسي من المعاصرة
في الجهة المقابلة، تدرك الولايات المتحدة، وهي دولة المواجهة الأولى مع روسيا في هذه الأزمة وفي أزمات غيرها، أن الخسارة الروسية في هذه الحرب محتمة، وأن العقوبات التي تعتزم فرضها ستخرج الاقتصاد الروسي من المعاصرة وتعيده عقودًا إلى الوراء. فيما يستمر اقتصادها بالنمو ويطرق أبوابًا جديدة لا تخطر على بال أحد. وما أن تضع هذه الحرب، حرب العقوبات، أوزارها حتى تكون الولايات المتحدة قد استعمرت المريخ، فيما ما زالت روسيا تبحث عن مصادر بدائية لتعزيز مداخيلها الضئيلة.
اقرأ/ي أيضًا: الاستثمار في الإفقار
الخلاصة التي يجدر بنا أن نتعلمها من هذه الأزمة، رغم ثقل الخسارات التي قد تخلفها على المتورطين فيها وعلى شعوب العالم أجمع، تتلخص بما يلي: ثمة عالمان يتعايشان في زمن واحد. عالم بات على قاب قوس من استعمار الفضاء، وتحويله إلى مقاصف شتوية للقادرين على الإقامة فيه، وعالم ما زال يعيش في القرن الماضي بكل ويلاته وحروبه وأزماته، وهو العالم الذي قد ينجح في احتلال أكبر مساحة من الأرض، لكنه ما أن ينجح في ذلك حتى يحولها إلى خراب عميم، لا ينبت فيها غير الأزمات والفقر والعوز وخطابات الانتصار والقوة الفارغة من مضمونها.
اقرأ/ي أيضًا: