في عراق ما بعد التغيير، طغت ظاهرة قليلة الحدوث في التاريخ المعاصر. إذ نسمع عن رجال حُكمٍ عملاء للأجانب، أو يعملون ضد مصالح بلدانهم وشعوبهم من أجل مصالحهم الشخصية، كما في بعض الأنظمة الاستبدادية في الدول العربية. لكن في العراق، تعمل السلطة مع المعارضة مع الدستور والعملية السياسية لزوال الدولة العراقية ككيان. وبنظرةٍ لتعريف الدولة بالطريقة الكلاسيكية -شعب، إقليم، نظام- نجد أن كل ما حصل ويحصل في العراق يصب في مصلحة تقسيم الشعب، وتقسيم الإقليم، وبالتالي انهيار النظام، لتنتهي بذلك الدولة العراقية من الوجود.
ولأننا خضنا تجربة ديمقراطية توافقية (محاصصاتية) مؤلمة وتدميرية، نستطيع التسليم بأن نوع الديمقراطية هذا كان موازيًا لنوع الطبقة السياسية التي تسلمت زمام السلطة بعد الاحتلال من حيث الآثار الناجمة عنها. فنظام المحاصصة هذا فرز الشعب من خلال ممثليه إلى طوائف وقوميات، وأصبح الصراع والتنافس الحزبي والانتخابي، وبالتالي إقبال الجمهور تدريجيًا يقتصر على المناكفات الطائفية، إذ لو عدنا لطبيعة عمل الأحزاب، لن نجد على أرض الواقع ولا في الخطاب السياسي أي برنامج يعنى بتنميةٍ اقتصاديةٍ ما، أو نهضة مفترضة، أو إصلاح اقتصادي وسياسي.
اعتقد أن الصيرورة الطبيعية لنظام قائم على صراع هويات فرعية، هي تفريخ هويات جديدة داخل الهوية الفرعية ذاتها
لا يحتاج السياسي العراقي لبرامج ووعود برّاقة لاستمالة الناخب العراقي، فهو يمتلك الخطاب السحري الجاذب الأكبر. فبعد فرز الشعب وتعيينهم والإشارة إليهم بالأسماء والعناوين، صار عليهم التنافس على من هو الأجدى بتمثيل هذه المجاميع المتكتلة بعنوان الطائفية أو القومية. ولأن العملية بُنيت على الفرز الطائفي، لم تقف الأمور عند حاجز التنافس بين الطوائف على السلطة فحسب، بل تعدى ذلك إلى التنافس داخل الطائفة الواحدة، فغدا "سؤال الأحزاب" من يُمثل الطائفة أكثر من زميله؟!
وأعتقد أن الصيرورة الطبيعية لنظام قائم على صراع هويات فرعية، هي تفريخ هويات جديدة داخل الهوية الفرعية ذاتها، لتستمر العملية إلى ما لا نهاية، وأي ديمقراطيةٍ هذه؟
اقرأ/ي أيضًا: الغجر في العراق.. الصعود إلى الهاوية
اختفى التنافس المشروع على السلطة، الذي يتطلب بذل مجهود لإقناع الناخب إما بإعادة انتخاب الحزب الذي في السلطة لإنجازاته، أو استبداله بحزبٍ آخر لإخفاقه، بل أصبح التبرير جاهزًا لأي إخفاقٍ يقوم به ممثلنا الطائفي، والإنكار كذلك لو حصل إنجاز من الآخر المختلف طائفيًا، اختفت الوعود بالمشاريع فضلًا عن تحقيقها، غابت الهوية الوطنية الجامعة للعراقيين، وكذلك الهوية العربية الجامعة للشيعة والسنة العرب.
في عراق اليوم، سلطة ضد الدولة، هي نتيجة نظام قائم على تقديم الانتماءات الطائفية على الانتماء للدولة، الكيان الجامع المانع
وبسبب هذه الديمقراطية التي أنعمت بها أمريكا علينا، لم يختلف عوام الناس حول أحقية من في الخلافة وانعكاس ذلك على الصوت الانتخابي فحسب، بل تختلف النُخب الثقافية والإعلامية والصحافية التي تشتغل في الحقل السياسي بحسب تخندقاتها الطائفية، لا بالرؤى والأفكار التي تُعنى ببناء وتحديث الدولة-الأُمة.
إنها الإرادة الخاصة عندما تتغلب على الإرادة العامة -بتعبير جان جاك روسو- التي تُنتج الفساد، وتهدم الدول والأوطان، وتعبث بمستقبل أجيال لا تُفكر الطبقة السياسية بوضعهم ومصالحهم.
في عراق اليوم، سلطة ضد الدولة، هي نتيجة نظام قائم على تقديم الانتماءات الطائفية على الانتماء للدولة، الكيان الجامع المانع. وأي إصلاحٍ أو تغيير يتطلب نظرة شاملة تُعرف العراق كدولة، مع الأخذ بعين الاعتبار البنية الاجتماعية والدينية والقومية لمكونات المجتمع، من ثم ترسيخ نظام تنافسي لا ينقل التعددية المذهبية والقومية إلى ساحة الصراع السياسي.
إنها تجربة مؤلمة وقاضية كانت نتائجها مئات الآلاف من الأبرياء، ولا أعتقد أن الدماء، وعملية التخريب والانهيار هذه ستتوقف في ظل هذا النظام، نظام المحاصصة الطائفية.
اقرأ/ي أيضًا:
إشكالية إعادة السنة إلى منظومة الحكم عراقيًا
التهجير "الطائفي" في العراق.. فتّش عن الميليشيا