كان يعوزني ما يشيع في مكاتب الصحف الشهيرة من بريق الكاتب الحصيف والإعلامي المتحصن بالجرأة والمهارة في اختراق الحواجز من أجل أهداف عدة، ولم أكن من النوع المتحذلق بالخصوص، لكن أدواتي التحريرية تفوق المألوف بما تختزله تدويناتي من نقد ساخر وتهكّم ذهني، وأطروحات ذات مغزى فلسفي واتجاهات متنوعة.
منذ أشهر قليلة، صرت متابعًا وفيًّا لكاتب بارز في جريدة ذات رواج وانتشار محلي ودولي. قد لا أبالغ في الأمر شيئًا إذا ما اعتبرت أن السيد شكيب عبد اللاوي أحد الأسماء الأكثر سطوعًا وتداولًا في مجال التحرير.
بحنكتي المعتادة حصلت على عنوانه الإلكتروني. إنه يمثل أحد أعمدة الجريدة وأعتقد أنه متحيز إلى الأقلام الجادة، بما يدفع للتوقع أن يهتم لشأني.
دوّنت سيرتي الذاتية مع مقال وصورة مرفقة. هذا كلّه في رسالة تتخضّل برغبتي العارمة في كسب ثقته. من ثم أغلقت حاسوبي المحمول وطلبت قهوة كابتشينو، مستمتعًا بالهدوء في ركني المعتاد وبمعزل عن تمظهرات الانتماء للوسط الثقافي.
يا الهول؟! صرخت بذهول.
وصلني الردّ. في غضون نصف ساعة. إنها رسالة مباغتة في وقت قياسي للردّ على كاتب مغمور. وحسبي في هذه العجالة أنني ذو شأن. لعل المقال ارتقى إلى تطلعات الجريدة وساير منهجها الفكري، بما أنه استأثر بالاهتمام فنلت حصّة الأسد في هذا التحديث التحريري.
واجهت حملة أفكار طوباوية من قبل، لكن أعتقد أن الإصلاح قائم بذاته ضمن تحولات تتبنى الانفتاح على الآخر.
قبل أن أفرغ آخر ركوة من القهوة في معدتي. انخفض توتّري وأنا أقرأ الرسالة على شاشة هاتفي الذكيّ عبر الواتساب: "مرحبا، تلقيت رسالتك بكل سرور، المقال جيد وسأهتم به شخصيًا للنشر".
جملة مجفّفة من عبارات الاطراء والترحيب، لكنها كانت كفيلة بأن أنسحب بسرعة البرق من المقهى، وأتجه صوب البيت لأكمل ما تبقى من الفصول الأخيرة لدراسة استثمرت فيها جلّ وقتي في الآونة الأخيرة. يجب أن أتخذ خطوات جريئة واعية بذاتها. أفكر بالإشارة إلى مقاييس الإبداع ومفاهيمه في مقاربة مع الأدب الرقمي.
صرت أصفِّر بصوت مرتفع وأصفق على نحو صبياني. لقد تحولت تصوراتي من النفي والإقصاء إلى سطوة الكلمة وصنوف تحصين الذات. إنه انتصاري المعترض على النكسة والخذلان ولا مصادرة لأداء مقنع ومنفصل عن السائد.
هكذا كان لرسالة الأستاذ عبد اللاوي وقع إشرافيّ، ونالت مني حماسًا بارزًا، اندلعت من خلاله مؤشرات الإنصاف.
تظهر أشياء إيجابية بنحو جليّ، أن تجعل الأشخاص البارزين بجانبك، أو أن تلوح لهم من بعيد. لكن أحدهم يخمن أنه يعرفك من قبل ويرفع يده ثم يخبرك قواعد التعارف من جديد.
لم أخطّط للاتصال به حينها ولم أطلق براعتي في كسب ودّه برسالة شكر وتقدير، مع أن هذه الحركة قد تبدو مثالية بنحو كافٍ للفت انتباهه. ربما سيقلّص عينيه وهو يمعن النظر في الرسالة ببلاهة، كي يسترضي كبريائه.
التقطت بعض المراجع المركونة على جنب، في مكتبة قديمة ورثتها عن أبي. سأزود أنظمتي المتخبطة في القراءة بمساءلة فلسفية قد تؤتي أكلها وتفرقع المواقد المشتعلة في ذهني المنحازة لنيتشه وقوّة الإرادة، رغم أنها في هذه الأيام غير مستقرة البتة، مع شطحات الحداثة ومساربها المتعددة.
خلال شهر أو أكثر واكبت الموقع الإلكتروني للجريدة بحماس شديد. فضلًا عن ذلك، صارت الأفكار تتحرك برأسي بنحو خارج عن السيطرة. لكنني كنت أدعوها إلى التريّث في ذهني.
الوقت كان ليلًا. خطر ببالي أن اتصل بالسيد شكيب لعله يرد على رسالتي الإلكترونية في رقم قياسي كأول مرة انتفخ فيها صدري بالنشوة والذهول.
من الممكن أن أنقل له دراستي الأخيرة مع مراعاة شروط النشر. رغم أن الموقع لا ينشر هذا الصنف من المواد. وددت أن أتخلص من ترددي وهواجسي وأخبره بهذا الأمر. طرقت إيميله برسالة مختصرة مستخدمًا لباقتي المعهودة.
كان ذلك أشبه بعرض هزليّ حين وصلني الردّ.
"مرحبًا، سأكون على ذمتك في أي مقال تريد نشره. لقد كسبت نسبة عالية من المشاهدة في صفحتي وأيضًا بمواقع متعددة. لكن عليك أن تزودني بالمزيد. وأنت تستخدم اسمي سيغدو الأمر مهمًّا وحيويًا بالنسبة لك. أتوقع لك مستقبلًا باهرًا.
تحياتي".
اقرأ/ي أيضًا: