يُعرِّف المفكّر العربيّ عزمي بشارة ظاهرة "الشعبوية" في كتابه "في الإجابة على سؤال: ما الشعبوية" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019) بوصفها نمطًا خطابيًا سياسيًّا، يجمعُ بين الخطاب والسلوك بطريقةٍ تُمكِّنهُ غالبًا من التفاعل مع مزاج سياسيّ غاضب لجمهور فقد الثقة بالنظام والنُخب الحاكمة والأحزاب السياسية القائمة. ويُمكن هنا فهم "التفاعل" على أنّه استثمار في هذا المزاج الذي يوظَّف الخطاب نفسه – بوصفهِ استراتيجية سياسية – لمُخاطبته من قبل حَمَلته ممّن يقدّمون أنفسهم ممثّلين حقيقيين للشعب، ويقدمون كلّ ما عداهم كممثّلين زائفين وأعداءً لهُ.
عدّ بعض الباحثين الشعبوية أمرًا طبيعيًا وليست نوعًا من اللاعقلانية، بل قد تكون استراتيجية عمل عقلانية تستخدمها فئات متضرّرة
يتحوّل هذا الخطاب إلى أيديولوجيا في الحالات المتطرّفة فقط، لا سيما أنّه لا يأتي على درجة شعبوية واحدة بل مُختلفة باعتبار أنّ ليس كلّ خطاب يهدف إلى تحقيق مقبولية شعبية، يعتمد على المبالغة والكذب وشيطنة خصمه، خصوصًا أنّ الأحزاب السياسية تتوسّل خلال تنافسها الحزبيّ أنواعًا مُختلفة من الخطابات الديماغوجية التي تُجاري مزاج جمهور الناخبين، ولكن بدرجات شعبوية مُختلفة وأهداف متباينة. فبينما تُسخِّر قوى مُعيّنة الديماغوجيا الشعبوية لخدمة قضايا تحرّرية تتبنّاها، هناك قوى أخرى تسخّرها للتحريض العنصريّ والتعبئة العدوانية والتشكيك في المؤسّسات الديمقراطية.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة وكتاب "في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟".. الديمقراطية في خطر
الخطاب الشعبويّ نفسه ليس جوهرًا ثابتًا بل يأتي على درجات، خاصّةً أنّ القوى التي تعدّ وسطية أيضًا تستخدم البلاغة الشعبوية في قضايا مختلفة تتناولها الحركات الشعبوية، بحسب المرحلة. لهذا السبب عدّ بعض الباحثين الشعبوية أمرًا طبيعيًا وليست نوعًا من اللاعقلانية، بل قد تكون أيضًا استراتيجية عمل عقلانية تستخدمها فئات متضرّرة. في المقابل، هناك من يراها غير عقلانية، بل ومرض سياسيّ تُسبّبه قيادات كاريزمية في زمن الأزمات.
يُمكن القول إنّ المؤسّسات الديمقراطية أكثر المتضرّرين من الخطاب الشعبويّ الذي لا يُريد منه حَمَلته توظيفه لتوجيه الغضب ضدّ سياسات بعينها فقط، وإنّما ضدّها أيضًا، وبأسلوبٍ مُباشر يُصبح عنده مُشكلة حقيقية مؤرّقة للنظام الديمقراطيّ إذا ما زاد منسوب الكراهية وشيطنة الآخر فيه. على أنّ الأخطر بحسب صاحب "في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟" هو: "تحوّل الأسلوب الذي يقسم المجتمع – إلى "نحن" متخيّلة يدّعي المنتمون إليها أنّها الشّعب من جهة، و"هم" متخيّلة من أعداء الشعب، ومؤلّفة من النخب والسياسيين والمثقّفين والأحزاب عمومًا – إلى أيديولوجيا" (ص 19).
ما إن يتحوّل الأسلوب إلى أيديولوجيا حتّى تتحوّل الشعبوية من مجرّد استراتيجية سياسية إلى ظاهرة مُعادية للديمقراطية بشكلها الليبراليّ الذي يكون الشعب عنده مصدرًا لشرعية النظام القائم، من خلال ممارسة سيادته في الانتخابات، على أن يكون تمثيله عملية منفصلة تقوم بها مؤسّسات وسياسيون مُحترفون، فلا يُمكن تخيّل ديمقراطية تمثيلية دون نُخب تؤلّف أجسامًا ومؤسّسات وسيطة مع المجتمع من جهة، ومؤسّسات أخرى قضائية ورقابية خارج المؤسّسات التمثيلية من جهةٍ أخرى.
المسافة الفاصلة بين الشّعب ومُمثّليه هي المسافة التي تشكّل فضاءً يسمحُ بتوسّط الأحزاب والمؤسّسات المدنية، عدا عن أنّها تمكّن عملية التقييم والحوار والمُناقشة والرقابة المُتبادلة. ولكنّها تنتج في الوقت نفسه خطر اغتراب الناخبين عن القلّة المُنتخبة، الأمر الذي يجعلها جزءًا من أزمة الديمقراطية الليبرالية، وهي أزمة ليست جديدة كلّيًا بقدر ما هي من تجلّيات ما يسمّيه بشارة أزمة دائمة للديمقراطية في ظروف جديدة.
ما إن يتحوّل الأسلوب إلى أيديولوجيا حتّى تتحوّل الشعبوية من مجرّد استراتيجية سياسية إلى ظاهرة مُعادية للديمقراطية
يُحدِّد بشارة هذه الأزمة بثلاثة توتّرات بنيوية ينطوي أوّلها على بُعدين: البعد الديمقراطي المتعلق بالمشاركة الشعبية القائمة على افتراض المساواة الأخلاقية بين البشر؛ والبعد الليبراليّ الذي يقوم على مبدأ الحريّة المُتمثّلة في الحقوق والحرّيات المدنية، وصون حريّة الإنسان وكرامته وملكيته الخاصّة من تعسّف الدولة والمتعلّق أيضًا بتحديد سلطاتها.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة في كتابه "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته".. تلك الطريق ومشقاتها
أمّا التوتّر الثاني فهو كامن داخل البعد الديمقراطيّ ذاته، بين فكرة حكم الشعب لذاته من جهة، وضرورة تمثيله في المجتمعات الكبيرة والمركّبة عبر قوى ونخب سياسية منظّمة تتولّى المهمّات المعقّدة لإدارة الدولة من خلال جهازها البيروقراطيّ من جهةٍ أخرى. بينما يأتي التوتّر الثالث بين مبدأ التمثيل بالانتخابات، مقابل وجود قوى ومؤسّسات غير منتخبة، ولكنّها ذات تأثير في صناعة القرارات أو تعديلها وحتّى عرقلتها.
بطريقةٍ أو بأخرى، ليست هذه التوتّرات مسؤولة عن تكوين الخطاب الشعبوي، أو غضب قطاعات اجتماعية مُعيّنة وإنّما الصراعات الاجتماعية والاقتصادية القائمة في أي دولة، مثل التفاوت بين المساواة الاجتماعية والسياسية وإشكالية الحريّة في غياب المساواة. ولكنّها، في المقابل، تعدّ منفذًا للخطاب الشعبويّ باتّجاه غضب الفئات المُهمّشة والمتضرّرة التي تخلق حالة غضب اجتماعي يُترجمه إلى نقدٍ للنظام الديمقراطي نفسه.
الخطاب الشعبويّ المذكور آنفًا، جاء عند أرسطو في سياق حديثه عن مخاطر الشعبوية وسلبيات الديمقراطية بوصفه "ديماغوجيا" توهمُ الناس أنّهم إذا كانوا متساوين في الحريّة فيحب أن يكونوا متساوين على وجه الإطلاق. وهذه المساواة تُبطل أيّ قيود قائمة على سلطة الشّعب، وتُلغي التمايز حتّى على أُسس مثل الأهليّة والكفاءة وأي تراتبية تنظيمية في الدولة.
رأى بشارة أنّ أرسطو أمسك بتناقضات الديمقراطية في حالتها الأوليّة حينما تناول سلبياتها والمخاطر المُحدقة بها أيضًا، لا سيما الخطاب الديماغوجي الذي يَظهر حَمَلتهُ حيث يفقد القانون سيادته، فيصادرون أوّلًا ثقة الشّعب، ثمّ يستخدمونها لحكمه بوصفهم أسياده الجُدد، دون قوانين تُقيّدهم باعتبارهم يتصرّفون باسمه أساسًا، والنتيجة كما يوضّحها المفكّر العربيّ قَلب الشعبوية – الأيديولوجية تحديدًا – حكم الشّعب غير المقيّد إلى آخر مُطلق ومُستبد باسمه.
تكون الديمقراطية التي لم تمرّ بمرحلة ليبرالية أشدّ هشاشة وأقل مقاومة للخطاب الشعبويّ ومضارّه
تُقابل رؤية أرسطو بأنّ الديماغوجيين يظهرون حيث يفقد القانون سيادته، موقف إدوارد شيلز بأنّ الشعبوية تهديد مُباشر لسيادة القانون باعتبارها تحملُ في صميمها إيمانًا يُفيد بأنّ الشّعب ليس مساويًا للحكّام فقط وإنّما أفضل من حكّامه. ويُعرِّف شيلز هذه الشعبوية بـ "الديمقراطية المُفرطة" التي تُهدِّد جميع مراكز السلطة والقوّة، وتشكِّل خطرًا مُباشرًا على استقلالية حكم القانون والقضاء التي تمثّل العمود الفقري لشرعية الأنظمة الديمقراطية، ممّا يجعلها تضخميًا مشوّهًا ومتطرِّفًا لتقليد المساواة الأخلاقية.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة يجيب: هل من ملفٍ قبطي في مصر؟
إلى جانب أرسطو وشيلز، يستعرض صاحب "في المسألة العربية" مجموعة آراء حول الخطاب الشعبويّ وتهديده للديمقراطية، فيقول إنّ سيمون مارتن ليبسيت يرى في الشعبوية حركات جماهيرية مُعادية للديمقراطية بالمعنى الواسع، مُعتبرًا أنّ ما يربط الجماهير بها هو حرمان نبسيّ يشكّل حالة نفسية – اجتماعية غاضبة ناقمة تُعمل على استثمارها. على العكس من وليام كورنهاوزر الذي يعتقد أنّ الشعبوية ليست مجرّد حركات اجتماعية متنوّعة، وإنّما من أعراض المجتمع الجماهيريّ.
يصف كورنهاوزر الشعبوية بـ "الديمقراطية الشعبوية" التي تتطوَّر حيث توجد أشكال للديمقراطية التمثيلية التي تفتقد إلى حكم قانون متطوّر بما يكفي، الأمر الذي يجعلها تُقابَل بالديمقراطية الليبرالية التي لا تستند إلى حكم قانون متطوّر فقط، وإنّما إلى استمرارية أنماط تقليدية من الشرعية.
يقول عزمي بشارة إنّ مشكلة الأطروحات السابقة تكمن في كون كتّابها لم يمنحوا مسألة غياب المساواة ومخاطرها اهتمامًا كافيًا، رغم أنّها من أهمّ مصادر الشعبوية المُعاصرة. ويؤكّد أنّ مكافحتها لا تكون بسيادة القانون أو التحذير من مخاطرها فقط، وإنّما بمعالجة مصادرها الاجتماعية والثقافية، خاصةً في ظلّ اختلاف الكيفية التي تتعاطى بها الديمقراطيات معها.
بينما تكون الديمقراطيات التاريخية التي بدأت بنظام ليبرالي وترسّخت فيها الحريّات والحقوق المدنية قادرة غالبًا على احتواء الحركات الشعبوية، تكون الديمقراطية التي لم تمرّ بمرحلة ليبرالية أشدّ هشاشة وأقل مقاومة للخطاب الشعبويّ ومضارّه، لا سيما في حالة الدول التي انتقلت إلى الديمقراطية الشاملة دون المرور بمرحلة ليبرالية سابقة، وهو ما يتعلق بتعميم حقّ الاقتراع العام الذي تخوّفت منه الليبرالية الكلاسيكية.
تختلف مخاوف الليبرالية الكلاسيكية من هذا الحقّ عن معارضة تيّارات أخرى له عُرفت بنقدها أساسًا للديمقراطية لأنّها سمحت للعامّة من الفقراء والأمّيين غير المؤهّلين بالتدخّل في السياسة والمشاركة أيضًا في صناعة القرارات؛ ذلك أنّ مخاوفها انطلقت من الحرص على الحفاظ على الملكية الخاصّة والحريّات المدنية التي في حالة الدول التي انتقلت إلى ديمقراطية شاملة، يُمكن أن تتعرّض إلى خطر حقيقي إن رفعت الشعبوية قيمة المشاركة السياسية وحكم الأغلبية فوق قيمة الحريّات والتعدّدية.
انطلقت الشعبوية في نقدها للديمقراطية من فكرة أنّ الشّعب طيّب وخيّر وعلى حقّ دائمًا، وأنّ النخب الحاكمة هي الفاسدة
فهذه الدول، باعتبارها نامية بديمقراطية وليدة ناتجة عن ثورة أو إصلاح، غالبًا ما ينتشر فيها: "حالة من الخيبات وعدم الارتياح الشعبي من النظام الديمقراطي (...) والمشكلة أنّ المواطنين في هذه الدولة لم يعتادوا التمييز بين الحكومة والنظام السياسيّ، ما ينذر بتحوّل النقمة على الحكومة إلى موقف من النظام" (113). على عكس تلك الراسخة في الدول المتطورة حيث تؤدّي وظيفتها على الرغم من حالة عدم الرضا والغضب الشعبي وتواجه الشعبوية بأدوات مختلفة فتنجح في تهميشها حينًا واحتوائها حينًا آخر.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة في الإجابة على سؤال "ما العمل؟" إزاء صفقة ترامب-نتنياهو
انطلقت الشعبوية في نقدها للديمقراطية من فكرة أنّ الشّعب طيّب وخيّر وعلى حقّ دائمًا، وأنّ النخب الحاكمة هي الفاسدة. ومن شأن هذا الأسلوب النقدي أن يجعل منها تهديدًا مُباشرًا لإنجاز الديمقراطية الأهمّ: التعدّدية التنافسية التي تحدُّ من تعسّف الدولة وتسمح بمحاسبة السياسيين، عدا عن أنّها تحمي المواطن وحقوقه وحرّياته، فالتعدّدية وفقًا للمنظور الشعبويّ الذي يصرً على مبدأ التواصل المُباشر بين القائد والقاعدة الشعبية دون أجسام وسيطة، فائضة عن الحاجة.
تستفيد الشعبوية من حالة الاغتراب عن السياسة التي يرى المفكّر العربيّ أنّ حلّها متمثّل في زيادة ذات معنى للمشاركة الشعبية، وتوسعة مفهوم الحقوق بحيث يشمل الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية أيضًا، وكذا إقناع الناس بأنّ الديمقراطية تحمي حقوقهم، وتشتمل على آليات تمنع تعسّف النظام إلى جانب آليّات لضبط الحملات الانتخابية والمال السياسيّ.
إلى جانب استفادتها من حالة الاغتراب عن السياسة، تلعب الشعبوية أيضًا على مبدأ المساواة الذي تُحاول فرضه بديلًا للحرّية التي يرى فيها مفكّرون متنوّرون أساسًا للنظام الديمقراطيّ العادل، ورأوا في مبدأ المساواة هذا تهديدًا لها، عدا عن أنّه في حال قبوله سيكون الطريق مفتوحًا له للتغلغل في مؤسّسات اجتماعية خاصّة عدا عن المطالبة بعدم قصر الديمقراطية على المساواة في الفرص، وإنّما في المنافع أيضًا. ويرى هنا بشارة أنّ الديمقراطية الليبرالية لا تستقيم دون الجمع بين مبدأي الحرّية والمساواة، وأنّ أي محاولة لعزل بُعدٍ عن بعد آخر تنتهي إلى إفراغه من مضمونه.
تستفيد الشعبوية من حالة الاغتراب عن السياسة، وحلّها متمثّل في زيادة ذات معنى للمشاركة الشعبية، وتوسعة مفهوم الحقوق
الحرّية دون المساواة الاجتماعية تفقد معناها ولا تُمكن مُمارستها، لأنّه لا توجد مُشاركة سياسية حقيقية في ظروف مساواة اجتماعية دون حرّية، لأنّ هذه المشاركة في ظلّ عدم توافر خيارات، تكون وهمية تمامًا، خصوصًا إذا أُخذ بعين الاعتبار أنّ حجب الحرّيات يؤدّي إلى تكريس امتياز للحاكمين على المحكومين، بالإضافة إلى إنتاج نظام استبدادي يُنتج بدوره أنماطًا جديدة من عدم المساواة تُتيح لفئة قليلة التحكّم في السياسية والاقتصاد بقدر أكبر بكثير من قدرة النُخب في النظام الديمقراطي الليبرالي على التحكّم.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "الثورة والقابلية للثورة": نظرية علمية لثورات الربيع العربي
يرى بشارة أنّ ما يُهدِّد النظام الديمقراطيّ هو انتشار عدم الثقة بالأحزاب والبرلمانات والأجسام الوسيطة الأخرى بين المواطن وعملية صناعة القرار، لأنّ غياب هذه الثقة يشكّل بيئة حاضنة للخطاب الديماغوجي، والنتيجة استهداف الشعبوية لاحقًا للأجسام الوسيطة نفسها.
اقرأ/ي أيضًا:
عزمي بشارة.. نحو نظرية عربية في دراسة الطائفية
"الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيّلة" لعزمي بشارة.. تأصيل غير متخيل