ضمن "موسم الندوات" الذي أطلقته وزارة الثقافة القطرية بالشراكة مع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات وجامعة قطر، بهدف إثراء النقاش والحوار بشأن قضايا ثقافية وفكرية معاصرة، عُقدت محاضرةٌ في معهد الدوحة للدراسات العليا، قدّمها المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي، يوم أمس الأربعاء، 30 آذار/ مارس الجاري، بعنوان "بشأن مسألة الهوية".
استهلّ بشارة محاضرته بالإشارة إلى أن هذا اليوم يزامن فلسطينيًا يوم الأرض، وهو اليوم الذي أعلن فيه الفلسطينيون داخل الأراضي المحتلة عام 1948 الإضراب العام في 30 آذار/ مارس 1976، وهو يرتبط إلى حدٍّ ما بموضوع المحاضرة؛ كونه جاء للتأكيد على الهوية الفلسطينية الجامعة بعد فترةٍ من عزلة عرب 1948 عن بقية أبناء الشعب الفلسطيني.
مسألة الهوية الذاتية والاجتماعية للفرد هي مسألة حديثة، نشـأت مع نشوء الفرد القادر على التفكير بـ"أناه"
أكّد بشارة في البداية ضرورة توضيح بعض المصطلحات عند الحديث عن الهوية، بسبب رواج المصطلح في الحياة اليومية والإعلام والأدب والعلوم الاجتماعية؛ ما جعل حدوده غير واضحة، ومن ثمّ شابه الارتباك سواء في التداول الإعلامي أو العلوم الاجتماعية. وفي هذا السياق، تطرّق إلى ثلاثة منزلقات قد تواجه الخوض "العلمي" في الموضوع: الأول، هو توسيع نطاق مسألة الهوية والإفراط في إدراج قضايا كثيرة تحت عنوانها، والتعتيم بذلك على مصادر اقتصادية واجتماعية وسياسية معقّدة للقضايا، لا تقود معالجتها بالأدوات التي تقارب بها مسألة الهوية، إلا إلى غموض أكثر. والمنزلق الثاني يتمثل في اعتقاد البعض أنه بما أن الهويات كائنات تاريخية وليست طبيعية، أي بما أنها مصنوعة ومركّبة، فهي مجرّد أوهام لا تستحق كل هذا الاهتمام. أما المنزلق الثالث، فهو الخلط بين مسألة الهوية وما يُسمّى الشخصية الحضارية لشعب أو أمّة أو حتى قارة كما يُدّعى عند الحديث عن شخصية حضارية أوروبية، أو يهودية - مسيحية، أو إسلامية، أو عربية - إسلامية، أو بوذية أو غيرها.
ثمّ انتقل بشارة إلى الحديث عن ظهور لفظ الهوية، مشيرًا إلى أن استخدامه بدأ في الفلسفة، ثم درج في الاستخدام اليومي في العصر الحديث، وأصبح كذلك مصطلحًا في العلوم الاجتماعية. أما عربيًا، فيعود أصل لفظ الهوية إلى محاولات العرب في القرن الثالث الهجري إيجاد ترجمة للمصطلحات الفلسفية اليونانية المتعلقة بوجود الموجودات، ولا سيما في نصوص أفلوطين التي نسبوها خطأً إلى أرسطو. ومن ثمّ، فالمصطلح هو ترجمة عربية لمصطلح يوناني يتعلق بالموجودات في وجودها هي بالذات. والهوية هنا تقابل الغيرية. وفي المنطق والرياضيات تعني الهوية التساوي التام. والتساوي بالتمام ممكن في الأفكار المجرّدة فقط، كما في الرياضيات. ولكن في هذه الحالة عمليًا لا يكونان شيئين مختلفين، بل الشيء ذاته.
ورأى بشارة أن مسألة الهوية الذاتية والاجتماعية للفرد هي مسألة حديثة، نشـأت مع نشوء الفرد القادر على التفكير بـ"أناه" المتواصلة المستمرة، رغم التحولات والتبدلات في مسار حياته؛ بحيث يلتقي وجودها بجوهره ذاتًا متصلة عابرة للتغيرات، وبهويته بوصفه فردًا عاقلًا، وليس مجرد جزء من جماعة عضوية وشائجية وُلد فيها ويحتل فيها مكانة محددة تُشتق منها واجباته، والقادر كذلك على التفكير في انتماءاته إلى أكثر من جماعة واحدة مثل جماعة المهنة وسكان المدينة والطائفة الدينية والفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها. تنشأ مسألة الهوية من التفكير بهذا التفكير؛ أي التفكير بالذات وأشكلة العلاقة بين الذات والجماعة، وطرح الأسئلة عنها وكذلك عن إمكانية وجود ذات جماعية غير الذات الفردية.
الهوية العربية من أنجع المضادات للطائفيات على أنواعها؛ لأنها تنافسها بقوة على حلبة الهوية والانتماء وليس على مستوى التنظير والنقاش العقلاني، وتملك المقومات لمنافستها
وفي ختام المحاضرة، تطرّق بشارة إلى مجموعة من الأسئلة التي كانت قد أثيرت في سلسلة الندوات التي بادرت إليها وزارة الثقافة، موضحًا: أولًا، أن أصحاب الشخصية الحضارية ذات المكونات الغنية المنفتحة على التطور والتغيير والواثقة من نفسها بتأصلها في هوية الأفراد الجماعية لا يفزعون من التفاعل مع الثقافات والحضارات الأخرى. أما الشخصية الحضارية الفقيرة والهزيلة، فيصعب أن تضرب جذورًا في هوية الأفراد الجماعية من دون استخدامٍ متواصل لنفي الآخر وسيلةً لترسيم حدود الهوية. ثانيًا، يمتلك العربي هوية ذاتية عربية عبر اللغة والثقافة، وهي أساس انتمائه إلى الهوية الجماعية العربية وتصورات تاريخها المشترك وحتى المصير المشترك والتأثر بكل ما يجري في البلدان العربية. واللغة الجامعة بين الفصحى والمحكية وآدابهما ليست أداةَ تواصل فحسب، بل هي أيضًا من أهم مكونات الثقافة والشخصية والوجدان. ثالثًا، الهوية العربية من أنجع المضادات للطائفيات على أنواعها؛ لأنها تنافسها بقوة على حلبة الهوية والانتماء وليس على مستوى التنظير والنقاش العقلاني، وتملك المقومات لمنافستها. رابعًا، مثلما لا يوجد تناقض، بل تكامل بين المكون العربي والإسلامي في الحضارة العربية الإسلامية، فإنه لا يوجد تناقض أيضًا بين العروبة والمواطنة. فالهوية العربية هي هوية الأكثرية في البلدان العربية، وهذا لا يمنع أن تجمع المواطنين العرب بغير العرب الهويةُ الوطنية والمواطنة المتساوية في دولة، مع احترام هويات غير العرب القومية والثقافية.
وقد أعقب المحاضرة نقاش ثريّ، أسهم فيه وزير الثقافة الشيخ عبد الرحمن بن حمد آل ثاني، إضافةً إلى عدد من الشخصيات الثقافية القطرية، وباحثي المركز العربي وأساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا وطلبته.