أتابع صفحات الصحفيين والمراسلين الفلسطينيين الذين ينقلون لنا الصور والأحداث من داخل غزة، ويدفعون لقاء ذلك ثمنًا باهظًا من أرواحهم وسلامهم النفسي، أتصفح التعليقات سريعًا، فأجد السواد الأعظم من المصريين، يرفعون الدعاء ويتأسفون ويشعرون بالقهر وقلة الحيلة لعدم قدرتهم تقديم أي شيء أو الوقوف إلى جانب إخوتهم، أو على القليل فتح معبر رفح لاستقبال الجرحى وتقديم المساعدات اللازمة. هي صورة تعبّر بوضوح عن واقع المصريين المغلوبين على أمرهم، ورغم أن الرئيس السادات كان أول المطبعين مع إسرائيل، إلا أنه بعد أكثر من 40 عامًا على اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، ما زال الشعب المصري يرفض هذا التطبيع، ليظل مجرد بنود مكتوبة على ورق، وقعتها الحكومات دون رضى الشعب.
لا أقول هذا لأبرئ موقفي كمصري بلا حيلة، لكن للتأسيس والتفرقة بين ما بيد الشعب وما بيد السلطة، خاصة بعد الموقف السلبي والضعيف للحكومة المصرية الذي جعل المصريين في مرمى اللوم والتقريع من الشعوب المجاورة، وللتدليل على أن الاحتلال والاستبداد إنما هما وجهان لعملة واحدة، الشعب المقهور بحاجة للمقاومة تمامًا كالشعب المحتل، ورغم ذلك حاول المصريون المساعدة بأضعف الإيمان، سلاح الكلمة وسلاح السخرية، وأخيرًا سلاح المقاطعة.
يقول الروائي الفرنسي جيلبرت سينويه: "يولد المصري وفي قلبه ورقة بردي مكتوب عليها بحروف من ذهب: إن السخرية هي المنقذ من اليأس".
أعلم أن المصريين لا يضاهون في السخرية، وأنها سلاحهم الفاضح البتّار على مر العصور، لكن من المؤسف في هذا الظرف أن يحوّل البعض السخرية إلى مسابقة تنافسية لصاحب النكتة الأعلى ذكاءً في المأساة، فيزدري السخرية ويزدري المأساة عن جهل أو غباء، أن تتحول المآسي إلى مبارزة لفظية ومقارعة إعلامية أو عرض مسرحي، لا نشارك فيه ولا نشاهده ولا نمنعه، بل نولي ظهورنا ونخوض عرضًا آخر على هامشه، نحن جمهوره ونجومه وصانعيه. لم يكن الموت أبدًا مادة للاستهلاك.
يقول الروائي الفرنسي جيلبرت سينويه: "يولد المصري وفي قلبه ورقة بردي مكتوب عليها بحروف من ذهب: إن السخرية هي المنقذ من اليأس"
نحن نعيش في عصر المذابح السهلة، فهل تمر المذبحة؟ يؤسفني القول إنها ستمر دون حساب للجاني، ستمر كما بحر البقر، وكما صبرا وشاتيلا. قتلت إسرائيل أكثر من 10 آلاف شخصًا خلال شهرًا، قتلت حكوماتنا العربية أضعاف هذا الرقم من شعوبها. قتل النظام السوري أضعاف هذا الرقم من السوريين، وما زال الأسد يعتلي العرش ويستقبلونه في الجامعة العربية. يتقاتلون في السودان وليبيا واليمن، وتمر المذابح في كل يوم.
كثيرًا ما تمنيت برومانسية مراهقة خراب جميع الأسلحة الحديثة، كما في مرويات حروب آخر الزمان، لتنتهي الحروب الجبانة ونعود إلى الجيوش التي تقابل بعضها في الميدان رجلًا لرجل، إما يقتل أو يُقتل، على القاتل أن يرى ضحيته بمقلتيه ويشم رائحة الدماء ويسمع تأوهات خروج الروح، على القاتل أن يعاني طوال حياته عندما تطارده أشباح ضحاياه.
لن يعاني القتلة اليوم وهم رجال أو نساء يرتدون أرتب الثياب، ويتعطرون بأطيب العطور، ويجلسون على بُعد مئات الكيلومترات ويصدرون أمرًا أو يضغطون زرًا فننطلق الصواريخ وتسقط القذائف لتقتل المئات وتهدّم المنازل والمستشفيات. أو رجل يحلّق في السماء ويضغط زرًا فيدمر كل ما تمر عليه طائرته.
ربما لم يرَ أحدهم عيون ضحاياه. لا يرى القاتل ضحاياه من المدنيين، لا يرى النساء الثكالى وأشلاء الأطفال. قديمًا لم يُقتل الأطفال والعجائز إلا من عدو خسيس، ويصير الأمر عارًا يطارده أبد الدهر، أما اليوم فما أسهل قتل الأطفال والمدنيين، والتذرع بأن المقاتلين يختبئون بينهم، كان على القاتل أن يمسك بكل طفل على حدة وينظر في عينيه قبل أن يجز عنقه، أما اليوم فما أسهل تمزيق آلاف الأطفال إلى أشلاء، دون أن يهتز رمش القاتل أو ترجف يداه.
الغلبة اليوم لمن يملك قوة تدميرية أكبر، ومن يمتلك الأسلحة الحديثة وأطنان المتفجرات، قديمًا كانت الحروب بحاجة لتخطيط عسكري وخداع استراتيجي، فيمكن لفريق أن يتغلب على آخر بسبب خداع ذكي في الخطة أو تفوق طفيف في التسليح، فالهكسوس تفوقوا على قدماء المصريين بسبب سلاح العجلات الحربية، وما إن امتلكه المصريون حتى استخدموه لطرد الهكسوس، الجميع يملك نفس الأسلحة ونفس القدرات، والغلبة لمن يملك الشجاعة والعزيمة وحسن التخطيط والإيمان.
نحن نعيش في عصر المواقف الصعبة، أشخاص يضعون مستقبلهم على المحك من أجل الاتساق مع ضمائرهم ومبادئهم، صحفيون يفصلون تعسفيًا من مؤسساتهم لأنهم أظهروا تعاطفًا مع غزة أو هاجموا إسرائيل، أو تناولوا الحرب من زاوية لا ترضى عنها الإدارة، ممثلون وفنانون يعرّضون مشاريعهم الفنية للخطر مع شركات الإنتاج المطبّعة، لاعبو كرة قدم في الدوريات الأوروبية اختاروا الصمت أو لم يتحملوا الصمت فباحوا بما في صدورهم وتحملوا التبعات. حالة من الجنون والإرهاب الفكري يُمارس على العالم أجمع، نبش في الضمائر كما محاكم التفتيش في العصور الوسطى، لنتجاهل كل ما يحدث ونسأل السؤال الوحيد: هل تدين حماس فيما فعلته يوم السابع من أكتوبر؟
إن لم يكن للمواقف الأخلاقية ثمن فليس لها قيمة.. تلك المواقف التي تختبر الضمائر وتميز النفيس من الغث، الكل قادر على البوح بما يريد إذا أمن الخسارة، بينما الشجعان فقط القادرون على تحمل تبعات آرائهم ومواقفهم في الأزمات الإنسانية.
نحن نعيش في عصر الاستهلاك المستمر حتى للمشاعر، النظرة إلى أهالي القطاع على أنهم يطيقون ما لا نطيقه، هي نظرة قاصرة وغبية وظالمة. لماذا يجب على إنسان أن يتحمل ما لا يطيقه أخوه؟ وأن يعاني القصف والدمار والجوع والعطش، وجلّ ما نفعله هو التشجيع والتهليل والاحتفاء ببأس الرجال وصبر النساء وجسارة الشجعان؟
أغضب عندما أرى الصور المولّدة بالذكاء الاصطناعي لأهل غزة وهي تنتشر بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، صور على الأغلب تظهر مدى شجاعة واستثنائية هذا الشعب، جمع من الأطفال يلعبون فوق الأنقاض والأبنية المهدّمة، أو عشرات يلتفون حول صحون قليلة من الطعام بينما يحاصرهم الخراب، لماذا نتجاهل الواقع الأكثر إلهامًا من ملايين صور الذكاء الاصطناعي ونلجأ لصور مزيّفة، هل لندلل على بطولة أهل غزة؟ هم بشر مثلنا ليسوا أبطالًا خارقين من عوالم الخيال، وإن كنتم تألمون فإنهم يألمون كما تألمون، خسارتهم فادحة وأوجاعهم عظيمة، فقد لأقارب وأطفال، ودمار لمنازل استثمر فيها أهلها "تحويشة العمر" لتأمين سكن آدمي للأبناء، وتهجير ونزوح ونوم في العراء بلا طعام ولا مياه، لا شيء في هذا الألم يستوجب المباهاة.
تخيل أن يُقصف منزلك، وتخسر عائلتك وأصدقائك، وتُهجّر من أرضك، ولا تجد حتى المياه النظيفة لتروي ظمأك، ثم يأتيك أحدهم ليخبرك: "ما أشجعك! أنت ملهم في صمودك وتماسكك". ملعون أبوه وملعون الإلهام والتماسك.. أليس الانهيار حق إنساني، كيف نشارك في الحصار ونحرّم عليهم البوح بالضعف؟ لا أحد يرغب في كلمات التحفيز عندما يفقد السيطرة ويريد أن يبكي، ليس وقتًا للتباهي، بل وقت الربت على الكتف، وقت الضم على الصدور واحترام اللحظة في صمت.