مرحبًا، اسمي زنوبيا، زينب أيضًا. أحبّ زينب كثيرًا. لا اسم غيره سيربطني بثقافتي الأولى، وربّما الأخيرة. أحبّ ثقافتي الأولى أيضًا. أؤمن بثنائيّة "الأرض والعالم" كلّ يوم أكثر، بأنّ عليّ أن أمدّ جذوري في ثقافتي وأنا أفتح يديّ لثقافات أخرى. ملاحظة هامّة ليست على الهامش يجب أن أذكرها: اسميّ ليسا دليلًا على انفصامي، إنّهما مزيج لما يفعله فينا سفرنا في العالم. جدله مع أرضنا الأولى.
يتجوّف العالم على غفلة. تخرجُ منهُ كأنّك غفوتَ عمرًا ثمّ خرجتَ ابنَ كَهف. الذكريات، لا تعود تزيد ضربات قلبك. تأخذ بضرب مكان آخر أبعد من أن يقربهُ القلب
يزعجني أن يناديني الغرباء زينب، غالبًا ما أعبّر عن انزعاجي من ذلك. لا يعني هذا أنّني قد أضرب أحدهم لأنّه تعدّى على اسمي، ولكن.. ربما.. بحسب الهرمونات.
الأمر هو أنّني أنتقي من يدخلون في الدائرة الحميمة لهذا الاسم.
بكلّ الأحوال، أتممت السادسة والعشرين. أجل أجل، أخاطر بأن أضع عمري على وسائل التواصل الاجتماعيّ. بعد عشرين سنة سيتّهمني أحدهم بأن عمري 46 وسأعجز عن الردّ والهروب. قولي بأنني في السادسة والعشرين هو استباقٌ علاجيّ لأيّ خلل في الدماغ قد يدفعني لأن أكذب بشأن عمري الحقيقيّ بعد 20 سنة. نعم. هكذا أحمي نفسي من خوف النساء من الشيخوخة. (هذا الكلام ينطبق فقط على حالةٍ محتملة أعيش فيها حتى السادسة والأربعين).
بكلّ الأحوال أيضًا.. تجاوزتُ مراحلَ في حياتي بسرعة مخيفة لستُ نادمةً عليها. غصتُ عميقًا في نفسي حتّى تعبت. امتلكتُ مهارة أن أنفصل عن محيطي متى أشاء. أحاول الآن أن أكتسب مهارة الاندماج في محيطي متى أشاء.
ثمّة إحساس غريب ينتابك حين تتجاوز مرحلة الداخل إلى الخارج.
يتجوّف العالم على غفلة. تخرجُ منهُ كأنّك غفوتَ عمرًا ثمّ خرجتَ ابنَ كَهف. الذكريات، لا تعود تزيد ضربات قلبك. تأخذ بضرب مكان آخر أبعد من أن يقربهُ القلب. تفكّر: من أنتَ لتشعُرَ أنّ تاريخَك لا يشبه تواريخ الآخرين؟
تشعر، بأنّ ذكرياتك لم تعد لك. بوسعك الآن أن تنقضّ على ذكريات أحدهم من غير أن يكون اسم ذلك "سرقة". بإمكانكَ أن تمنحهُ كلّ ما عندك. كلّ ما لم يعد باستطاعتك الحديث عنه.
لكأنّ لهذا الثقب الهائل الّذي نحيا على شاطئه، كلّ ذكرياتنا، نحنُ الكائنات الصغيرة المتألّمة المتأوّهة الباكية.
تتذكّر كم بكيت وتعجب. كيف لم أجفّ بعد؟
تقرأ الفاتحة على وجوهٍ ليس باستطاعكَ أن تتخيّلها لا زالت تدبّ على هذه الأرض. ثمّ تتذكّر أنّ هذه الوجوه ليست لك. لا تعلمُ من حفرها في ذاكرتك. الحفرُ، فعلٌ إراديّ. وأنت متأكّد أنّه لم يكن أنت.
لا شيء يُزهِر خارجَ التاريخ. أنت أزهرت. لكنّكَ عالقٌ مثل من أزهروا مثلك، في الهشاشة. وحدهُ الوقتُ يحرّكُ الأرواح. يفتّح وريقاتها ورقةً ورقة. نعم بمنتهى القسوة. لكنّهُ يعتذر منكَ أخيرًا بأن يُميتَك.
في السادسة والعشرين، سأحبّ أن أسلك المسار الطبيعيّ للحياة البشريّة. لأنني اقتنعت أنه مهما ظننّا أنّنا غير اعتياديّين، نفكّر في الموت، فنشعر بأنّنا غبار. وإن وُفّقت إلى أن أكتب بما يكفي ليتذكّرني من يأتي بعدي، فسأكون محظوظةً في مماتي مثلما أنا في حياتي.
لا شيء يُزهِر خارجَ التاريخ. أنت أزهرت. لكنّكَ عالقٌ مثل من أزهروا مثلك، في الهشاشة. وحدهُ الوقتُ يحرّكُ الأرواح
الآن، أتنبّه لأشياء كنت أعتبرها بديهيّة، لعظمة أمّي عبير وأبي حسن، للرحم المتين الّذي يربطني بأختي نوال، وأختي شذا، وأخي راغب. لأقرباء قليلين أحبّهم، لتربيتي الجميلة الّتي تسمح لي بالاستغناء عن أقرباء لهم من ثقل الدم ما لا يُحتمَل. للحبّ، وللحرب.. لبضعة أصدقاء، متفرّقين في هذه الأرض، لا أطمح لأكثر منهم. الغربال يغدو أدقّ وأسرع. الحمدُلله. لا كمبيوتر في العالم يغربل مثل الإنسان. ولأنني لن أغلق أبوابي أبدًا، لا زلت أطوّر الغربال.
وحين شكرتُ، هذه السنة، أصدقائي الفيسبوكيّين والإنستغراميّين على الرسائل والمعايدات، شكرتهم وأنا أعرف من منهم يقصدون أمنياتهم عن صدق وإصرار، ومن يقصدون بأمنياتهم كلمةٍ جميلة لشخص غريب. وفي الحقيقة، كان للفئة الثانية شكرٌ فريد من نوعه، لأنّ الكلام الجميل للغرباء قيمة لا بدّ من الاحتفاظ بها، للاحتفاظ بالخير في هذا العالم، لا أكثر.
هذا نصّ ليس بقصير عن نفسي. لأنّني صاحبة عيد الميلاد. يمكنني أن أبوح بما شئت.
هنا لم أبح بكلّ شيء. انتقيت فقط أوّل ما خطر ببالي.
أتجه اليوم إلى السادسة والعشرين ركضًا.