مع تصاعد استخدام الدين في السياسة وتنامي نفوذ التيارات الإسلامية، يتم الحديث بشكل مستمر متى كانت البداية؟ وما سبب هذه الظاهرة؟ ومن المسؤول عنها؟ وكيف يتم التصدي لها للوصول إلى مجتمع "علماني"؟
ادعاء افتقار الإسلام إلى التنوير ماهو إلا صورة نمطية أوروبية قديمة غير قابلة للصمود أمام الحقائق التاريخية
لكن مع كل النقاشات والحوارات يتم تجاهل أصول هذه الظاهرة وجذورها التاريخية، ويتم الاكتفاء بذكر تاريخ تأسيس تنظيم بعينه، أو فترة زمنية لسلطة محددة، وفي هذا المقال محاولة بحث عن جزء من الإجابة لهذه القضية، مع ذكر أمثلة لتوظيف الدين سياسيًا في أكثر الحقب تنويرية في مصر، كما يدعون، وكيف كان أصحاب "العمائم" يشاركون في تدبير المكائد لغيرهم.
اقرأ/ي أيضًا: سعة صدر فرح يوسف
هل الإسلام يفتقد التنوير؟
تجيب عن هذا التساؤل الدكتورة الألمانية أنغليكا نويفرت، المتخصصة في علوم القرآن، إذ تعتبر أن ادعاء افتقار الإسلام إلى التنوير ماهو إلا صورة نمطية أوروبية قديمة غير قابلة للصمود أمام الحقائق التاريخية، والقرآن يحتوي الصفات الجمالية والتقدمية والثورية، وأن صميم القرآن يدعو إلى المعرفة.
أين المشكلة؟
يتحدث المفكر المصري الدكتور حسن حماد رغم أن الإسلام فصل فصلًا تامًا بين المقدس من جانب، والدنيوي من جانب آخر، إلا أنه على خلفية الصراعات السياسية التي تمثل جذور الصراعات العقائدية بدأت تتسع سلطة المقدس في الإسلام، بحيث لم تعد مقصورة على الكتاب والسنة فحسب، ولم تقف عند حدود الرسل الصحابة بل امتدت للفقهاء والمفسرين، ماجعل مساحة المقدس تتسع لدى العامة لتشمل حتى هؤلاء الذين يمارسون الدجل والخرافة أحيانًا باسم الدين.
ويضيف المفكر الباكستاني برويز بيود أن الأصولية العقائدية بالإضافة إلى روح عدم السماحة هما من أهم عوامل قتل مسيرة الازدهار في الإسلام.
ومن وجهة نظري؛ بداية ظهور أزمة الأصولية المنغلقة هي أن أصحاب العمائم، أي الفقهاء، منذ القرون الأولى للإسلام، كانوا لكي يجدوا لأنفسهم مكانًا بارزًا على الساحة العامة، كان عليهم التخندق مع السلطة والدفاع عن مصالحها وشرعنة مواقفها، وعندما لا يجدون لأنفسهم مكانًا وسط معسكر السلطة يضعون أنفسهم في المعسكر المضاد باختيارهم، كانوا يتخذون مواقف أكثر تشددًا من السلطة وعمائمها، لتكون شرعية الوجود مصدرها التشدد والإقصاء وتجاهل أي مساحة للاتفاق والالتقاء وعدم السعي نحو التجديد.
اقرأ/ي أيضًا: مهدي عامل.. حذف القاتل أو تذكره فجأة
رغم الحركة التنويرية في مصر خلال عام 1919، إلا أن مفتي الديار المصرية أصدر فتوى يحرم فيها البلشفية
وفي كتاب "إقصاء الآخر" ينتاول أحمد سالم واقع الإقصاء السائد في حياتنا الراهنة، خصوصًا إقصاء الحركات الدينية بعضها البعض، وإقصاء المذاهب الدينية لبعضها البعض لا يمكن أن ندركه بعيدًا عن العقلية الإقصائية التي تشكلت عبر تاريخنا الثقافي بصفة عامة، وفي مجال علم العقائد بصفة خاصة.
صراع العمائم مع محمد عبده!
كان محمد عبده -عن طريق مجلس إدارة الأزهر الذي تشكل عام 1896 بدعم من الخديوي عباس حلمي حين كان عبده على وفاق معه- يحاول أن يقوم بإصلاح التعليم في الأزهر، فعمل على إقناع عمائم الأزهر بضرورة ترك قراءة الحواشي والشروح والاقتصار على متون المصادر الأساسية وحدها، مطالبًا بضرورة تأليف كتب فقهية مختصرة تمتاز بالسهولة والإيجاز والوضوح، واستطاع محمد عبده إدخال بعض العلوم الحديثة لكي تدرس في الأزهر، وقام بصرف مكافأت مالية للطلبة الناجحين بغرض تشجيع الطلاب على التحصيل العلمي، وكان فقهاء الأزهر المحافظين في ذلك الوقت، يرفضون تلك الإصلاحات التي أدخلها عبده، ومع نشوب صراع بينه وبين الخديوي عباس حلمي استقال محمد عبده من مجلس إدارة الأزهر، ليقوم بعد ذلك الخديوي عباس بتعيين عبدالرحمن الشربيني في منصب شيخ الأزهر للقضاء على الإصلاحات التي قام بها محمد عبده.
مصر حقبة تنويرية بفتاوي تكفيرية!
رغم كل ما يقال عن قوة الحركة التنويرية والليبرالية في مصر خلال عام 1919، إلا أنه في نفس العام أصدر الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية فتوى يحرم فيها البلشفية، والمقصود بالبلشفية هنا هو الشيوعية، وقال البلشفية نسبة إلى انتصار ثورة البلاشفة في روسيا، ووصف البلشفية بأنها طريقة تهدم الشرائع السماوية وعلى الأخص الإسلامية، والغريب أن تلك الفتوى التي يقال أنها كانت بناء على طلب الاحتلال الإنجليزي لم يتم رفضها من الرموز السياسية والثقافية التنويرية في تلك الفترة، ولم يتأخذوا موقفًا حاسمًا ضد المفتي.
اقرأ/ي أيضًا: