من كثرة تواتر الأخبار المفجعة والهزائم علينا بشكل يومي، يفقد الإنسان تدريجيًا الإحساس بالشفقة والتعاطف والتعلق تجاه أي شيء مهما كان غاليًا وقريبًا. حين يتم تحميل النفس فوق طاقتها لفترة طويلة والعقل أكثر من قدرة استيعابه للأحداث المتلاحقة؛ تضخ النفس مضادات دفاعية تبلد إحساسنا حتى نستطيع أن نكمل مهامنا اليومية دون أن نفقد صوابنا أو ننهار.
لكن إلى متى تستمر حالة الإنكار والتحصين المقلقة هذه؟ لم نعد نشعر بالقتلى واليتامى والمهجرين والبيوت والآثار المدمرة في بلادنا المنكوبة كما قبل. أين أنتِ الآن أيتها "الجمعة العظيمة" لو نتذكر، التي قتل فيها أكثر من 90 بيوم واحد -وكان رقمًا كبيرًا جدًا وقتها أبكت مشاهده باليوتيوب الكثير- على طريق الألم السوري الممتد منذ 6 سنوات.
أين أنتِ الآن أيتها "الجمعة العظيمة" لو نتذكر، التي قتل فيها أكثر من 90 بيوم واحد، وكان رقمًا كبيرًا جدًا وقتها أبكت مشاهده باليوتيوب الكثير
أين أنت يا درة وخضيرة ويا خالد سعيد ويا بوعزيزي. أين منا شهداء انتفاضة السكاكين الفلسطينية بشبابها وشاباتها بحر الوفاء والفداء المدد. إنهم ما زالوا موجودين بل ويتكاثرون، لكن نحن الذين لم نعد نكترث. حتى الأطفال جفت دموعهم الآن عندما يتم انتشالهم من تحت حطام سوريا واليمن والعراق وغزة وسيناء. جف الكلام أيضًا وجفت مشاركة الأخبار والنكات والتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي ما بين الشباب العربي الثوري المحبط.
اقرأ/ي أيضًا: الفريضة الغائبة في الثورة المصرية
أعراض التهكم والمرارة والسوداوية والسادومازوخية تنتاب الجميع فتحولنا إلى شبيحة وبلطجية، نصبح الوحوش التي واجهنا إذا لم ننتبه. تبدأ هذه الأعراض باللجوء إلي لغة السباب والتحطيم ووضع كل فصيل لا نحبه في قوالب تجردهم من إنسانيتهم بالجملة، كمقدمة لإباحة الفتك بهم دفعة واحدة بعد ذلك. وصف خرفان، كفتجية، جرذان، تكفيريين، برجوازيين، روافض، انقلابيين.. مثلًا. ثم تتطور الأعراض لاحقًا إلى حالة لا مبالاة وغثيان وعداء شامل تجاه النفس والكل بما فيهم الأهل والرفاق ومواضيع الرأي العام المثارة.
"لا يوجد حليب صناعي مدعم للرضع في مصر"
"خلفتوهم ليه يا بقر مادام لن تتحملوا مصاريفهم؟".
"هل سيجفف سد إثيوبيا حصتنا من النيل"
"أحسن شعب خنوع لا يستحق الحياة".
"ناشط آخر اعتقل وطالب آخر عُذب وقُتل"
"كفانا حديثًا وصورًا ومآتم عن المعتقلين والمختفين، الثورة وصفحة فيس بوكي ليستا حائط مبكى، ثم هم مناضلون يا أخي، ومن يروم ركوب البحر لا يخشى من البلل".
"محجبة البوركيني، الشرطي الفرنسي جعلها تخلعه أمام الناس بطريقة مهينة"
"عقبال البهائم اللي على شواطئنا هنا".
"اليمن تنزف وتتشقق ولا أحد يعترض، والبحرين نُسيّت وطيّفت"
"ماذا نفعل يا أخي الموت لآل سعود وأمريكا مليون مرة أفسدوا كل الثورات".
"ليبيا في حالة فوضى ميليشيوية"
"يا سلام على الفوضى وأيامها، أحسن من دكتاتوريتنا المميتة".
"كم عدد قتلى سوريا اليوم، هل نعرف؟"
"الجحيم لم يعد غير إرهابيين طائفيين وحثالة قاع القاع".
"يقولون حلب راحت"
"أرحم من مصير ثور تدمر المجنح!" (دمشق فقط هي التي تتضخم بشكل هستيري لدى محبيها في حالة إنكار شديدة لبقية سوريا).
"فلسطين، عملية فدائية في قلب تل أبيب قرب وزارة دفاع ليبرمان"
"من أنت؟ أنا لست من هنا، لست من هذا الزمان" ويكمل تدخين السيجارة وتصفح الفيس بوك بتوتر.
هذه عينة من ردود أفعال شباب عربي كانوا بالأمس القريب مقبلين على الاستشهاد في الطرقات في سبيل أي من تلك المواضيع (يمكن باستثناء موضوع بوركيني نيس). وهذه التفوهات، التي سمعتها على فترات متقطعة، لا تعبر عن آرائهم الأصيلة بالضرورة، بل هي تمويهات عدمية لاواعية يحصنون مشاعرهم الحقيقية وراءها ويبررون سلبيتهم وضعفهم بها.
يتحجر القلب لتتهيأ النفس إلى الدخول في حالة طوارئ تجعل المرء مستعدًا لمواجهة مشاكله المؤجلة المتنكر لها، كخوض الحروب أو الثورات أو التعرض لقصف أو تفجير أو خطر على أسرتك وشيك وداهم.
اقرأ/ي أيضًا: شباب ما بعد الربيع العربي
رويدًا رويدًا يتحجر القلب مهما حاولت مداواته بالبكاء والاستغراق والعمل وجلد الذات واللطم والذكر والشرب وسماع الموسيقى المفضلة واستحضار ذكرى الشهداء والسب وإقامة الصلوات والجلوس مع الأصدقاء والأحبة والخروج في مظاهرات. لا شيء سيحميك من تحجر القلب سوى الهجرة والنسيان أو المقاومة والموت والسجن إذا بقيت.
يتحجر القلب لتتهيأ النفس إلى الدخول في حالة طوارئ تجعل المرء مستعدًا لمواجهة مشاكله المؤجلة المتنكر لها، كخوض الحروب أو الثورات أو التعرض لقصف أو تفجير أو خطر على أسرتك وشيك وداهم.
قد يبدو الأمر مريعًا لأول وهلة، خصوصًا للمواطنين المسالمين الذين لم يألفوا عنف الكوارث والأزمات والاضطرابات. لكن الطبيعة، ونحن منها، قوية لا يجاريها ويراقصها سوى الأقوياء، وإلا دهستك بأقدامها إن تقهقرت أو تحصنت. هناك مجتمعات رخوة قد دجنت واستكانت لمستعبديها، واستوطنها الانحطاط والحرمان والضعف لدرجة أنها بحاجة إلى التعرض لهكذا صدمة قسرية، تخرجها عن طوعها لتحفزها على القيام بما لا يمكن أن تقوم بفعله وهي في حالتها المعتادة السابقة. وهناك مجتمعات أخرى، على النقيض من ذلك، تريد أن تستريح من كثرة الحروب والحيوية والثورات والفوضى واللجوء، فتتوق إلى الاستقرار والأمان والنظام. كل مجتمع بشري يمر بهاتين الحالتين من صراع وسلام. وإن لم يأتِ الصراع من ومع أنفسنا بالثورات والحروب الأهلية، أتانا من الخارج غزوًا واستعمارًا.
الأزمات تتقدم بها الأمم والأشخاص، على عكس رخاء الدكتاتورية والرأسمالية الذي يولد الانحطاط والتفاهة والتراخي، حتى ضمن مجتمعات الرفاه المتطورة تكنولوجيًا وعسكريًا. "السلام والاستقرار لم يخلقا للتقدم" كما قال هيجل صادقًا. نعلم أن روسيا، على سبيل المثال، فقدت أكثر من 24 مليون مواطن في الحرب العالمية الثانية. فرنسا وأمريكا، كل منهما خاض ثورة نتج عنها إرهاب ثوري وحرب أهلية قتل فيها مئات الآلاف بحق وبدون حق. معظم أقطار العالم العربي الآن في معترك مخاض عنيف جديد ستكون له تبعات هائلة في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية، بدأنا أن نرى بشائرها الإيجابية في الرأي العام، وإن لم تترجم إلى دوائر الحكم بعد.
كلنا دخلنا أزمات شخصية كادت أن تودي بنا لكنها جعلتنا أكثر قوة ونقاءً ووضوحًا، جاء الوقت الآن على العالم العربي ككل. فبعد كل موت قديم حان أجله، كالذي نعاينه الآن، تكون ولادة جديدة هي أقرب لحقيقة الواقع الآني. "موتوا قبل أن تموتوا" حديث منسوب إلى النبي محمد وكما قال السيد المسيح من قبله فى حديث منسوب له: "لن يلج ملكوت السماء من لم يولد الولادتين"، ربما يقصد الجسدية والروحية. أو حالة الدريد (السقم والوحشة) عند هيدجر في مقالته القصيرة "ما هي الميتافيزيقيا"، أو فلنقل الأنتولوجيا (نظرية الوجود) بالأحرى لأنها أصبحت الاسم الجديد والبديل المقبول الآن لمصطلح ميتافيزيقيا الكلاسيكي.
"السقم" هو الحالة التي تسبق "تفتح الوجود". ويتفتح الوجود هنا عن حالة نفسية وتأويلية جديدة للعالم. وحين نتكلم عن السقم عند هيدغر فليس بمعنى الملل والاكتئاب والغثيان المعتاد، بل هو يتجاوزه إلى اليأس التام والفزع والوحشة وفقدان المعنى وفناء الشخصية والبهجة والأمل والإرادة الفردية في "اللاشيء". فقط بالرجوع إلى حضرة ذاك اللاشيء الذي فاض منه كل شيء يمكن استشفاف ملامح الوجود والضمير الوليد.
كل المقدمات التاريخية والوجدانية التي نمر بها الآن تشير إلى أننا مقبلون على تلك الهوة الهوياتية، التي سينبعث من حطامها معنى عصر جديد، طال ترقبه وإن كنا نرتعد خوفًا من قسوة أعراضه الأولية.
اقرأ/ي أيضًا:
مصر.. وقائع عبثية لنهايات كارثية
البسطار الكبير.. هل سيسقط العسكر؟