ماذا يبقى لنا بعد هجرة الفنانين؟ ماذا يبقى بعد أن يغادرنا أحد أفضل من يرانا وينتقدنا دون خوف؟ أية خسارة منيت بها كردستان العراق مع رحيل فنان كان في جعبته الكثير بعد ليقوله؟
لا يوجد أشطر من بلداننا في السكوت عن كل ذهبها وهو يسرق، لكنها ستضعك في الزاوية إذا لم تحفظ جدول الضرب
أبواب مغلقة وأخرى مفتوحة على مصراعيها، لا يزال هناك متسع للخسارة حيث كنت أعتقد أنه لم يبق شيء، وأيضًا في هبوب أسراب الشركات والأسلحة ثمة الذي لا نلاحظه ويكون الأكثر عمقًا، ثمة من يغادر تاركًا الباب مفتوحًا لكي يخادعنا.
اقرأ/ي أيضًا: 4 من روّاد التشكيل السوري
ماذا يبقى إذا في الصالة، خصوصًا وأن الذي هاجر فنان تشكيلي، وليس بوسع أحد تخيل حجم الفراغ الذي يخلفه الفنانون فهو أكبر من حضورهم؟ ثم أنه لا أشطر من بلداننا في السكوت عن كل ذهبها وهو يسرق، لكنها ستضعك في الزاوية إذا لم تحفظ جدول الضرب، وهذا ما حدث للفنان التشكيلي الكردي العراقي سردار كيستي الذي غادر نهائيًا إلى الولايات المتحدة ليلحق بغجريّ المنفى والحزن سركون بولص، وكان أن التقيته في آذار/مارس من العام 2013 في "غاليري دهوك"، حينها أحسست أنني بخير طالما أن في المدينة فنانًا على هذا القدر من الحساسية والهدوء، ولا أستطيع أن أنسى الخيبة في عينيه تلك التي اصطدتها لأول وهلة، كنا اثنين دلدار فلمز وأنا، ثم صارحت دلدار بما رأيته، والذي لا أستطيع اليوم الجزم بما شعر به.
قادنا بعد لقائنا الأول إلى حيث يعمل، وهناك فقط شعرت بأنني أمام حلم طال أمده منثورًا في القماش بالأزرق ممطرًا وشهوانيًا، لم يكن سردار في وضع يجعل الهجرة تقفز إلى حقيبته، هذا ما يشعر به المرء حين يصادفه لأول مرة، لكن لا، هذه أحجية لا تنطلي على من يجس نبض المدينة بقلبه، في دهوك كمّ من الخيبة أكثر من قدرة سردار على احتمالها، وبوسعك أن تفكر في ذلك مليًا، ويمكنك أن تفند ذلك، لكنك لن تستطيع ملء الفراغ الذي خلفه سردار، بعد سنة وشهر تمامًا رن الهاتف، وكان هو، في مطار بغداد مستعدًا للغياب، ولم أكن. في تلك السنة نفسها خسرت كردستان العراق فلك الدين كاكائي أحد أهم المثقفين الذين كانوا لا يزالون يتحدثون عن الحكمة في زمن البربرية وتسلط الغباء، عندما يفشل المطار يا صاحبي ينجح الموت، وأتساءل اليوم عن كم الصمت الذي رافق غيابه، هل كان مقصودًا أم هو كعادتنا في عدم طرح الأسئلة حول أي شيء، ثم لماذا كان كل ذلك الاحتفاء بسردار في نيويورك فور وصوله؟ ألا يجدر بنا التساؤل حول الفجيعة التي تقذف بالجميع خارج الحدود، وتجعل الحلم كابوسًا.
لم أعرف سردار إلا حين كان قد وضب حقيبته، ولكنني رأيت ما يكفي منه في تلك النساء اللواتي ظل يرسمهن تحت وابل سيلانات الألوان، متوحدات أبدًا داخل جمر العشق والانتظار، وكأنه بذلك كان يعلن غيابًا مسبقًا أو عزلة طويلة، لكن لماذا أمريكا، لماذا اختار هذا المنفى البعيد، ألا تقول هذه المسافة شيئًا آخر غير إمكانية الحصول على فيزا؟
بعيدًا جدًا هاجر سردار، أكان يأسه كبيرًا إلى هذا الحد، ليجعل من العودة أمرًا مستحيلًا؟ ثم ما الذي ينتظرنا نحن، أي خراب يترصد أيامنا القادمة؟ أليس هذا الابتعاد مرًّا؟ لم يقل شيئًا، وهذا ما يجعل كل شيء موضع شبهة.
قبله هاجر الكثيرون ويكفينا منهم السياب وسركون لنعرف الذي حصل وسيحصل.
اقرأ/ي أيضًا: