الأمل يشبه الطرب. تنتشي به وتسكر. والأمل يجعلنا نفخر بأنفسنا، نحب صوتنا وأفكارنا ويومنا وغدنا. حين يكون الأمل حارًا نرضى عن يومنا حتى لو لم ننجز طواله شيئًا يذكر. شخصيًا أفضل الطرب على الأمل. منذ زمن بعيد، وأنا قليل الأمل. غادرني في لحظة مبكرة من شبابي، فاستعضت عنه بالطرب. هكذا يكون الطرب أملًا خاصًا. أن تصل إلى لحظة من النشوة وحيدًا ومن دون إيذاء أحد، أو تعريضه لخيبة أمل.
الأمل يشبه الطرب. تنتشي به وتسكر. والأمل يجعلنا نفخر بأنفسنا، نحب صوتنا وأفكارنا ويومنا وغدنا
حين التقيت أحمد قعبور للمرة الأولى كنت خارجًا لتوي من السجن وطافحا بالأمل. لم أكن شخصًا طروبًا ولا متأملًا، وكان يزعجني مجرد التفكير أن يمضي شخص ما أوقاتًا لا تحصى وهو يؤلف موسيقاه ويغنيها. الموسيقى كانت بالنسبة لي منجزة بشكل كامل يكفي أن تحتضن عودك وتغني "أنت عمري". ذلك أن كل هذا الغناء قد أُنجز قبل أن تنتبه وليس ثمة حاجة لإضافة شيء عليه. على أي حال، لم يلبث أحمد قعبور أن انفصل بموسيقاه عن دعاة الأمل. ما أن وضعت الحرب الأهلية اللبنانية أوزارها على وهم سلم أهلي، حتى عاد مرّجعا طروبا لأغان وألحان قديمة، تعيد السامع على نحو ما إلى زمن الطرابيش والتخت الشرقي، وحارات المدن التي تلمّح ولا تفصح، على ما كانت أحوال مدننا في زمن آبائنا. كان أحمد قعبور، كما بدا لي آنذاك، يريد القول إن الزمن الذي قضيناه في فورة الأمل، لم يكن إلا وهمًا أقنعنا أنفسنا به، وها نحن نعود إلى ما قبل ذلك الزمن. كأننا لم نولد بعد.
اقرأ/ي أيضًا: ملحم بركات... إرث الأحزان الشفيفة
لا أُلزم أحمد بهذا الحكم. لكنني أملك ملء الحرية في أن أقذفه في وجهه. ولأسباب تتعلق بالطرب والأمل مرة أخرى، أزعم أنني على حق على نحو ما.
حين استمعت إلى بعض إنتاجه الجديد شعرت أنني مخنوق. وأصعب ما يعانيه المخنوق، كما أحسب، أنه لا يستطيع الغناء. الغناء البسيط أقول وليس الطرب. فالطرب يحتاج إلى حنجرة طردت عمليات الخنق من ذاكرتها. حنجرة حرة ولعوب ومضى عليها لعوبًا وحرةً زمن طويل، فلم يعد ثمة ما يجعلها تحشرج. أحمد قعبور في الأغنيات التي لحنها وغناها مؤخرًا يشبه المخنوق، وأنا أسمعه لم أكف عن التفكير بالطريقة التي ينجح فيها في إسماع صوته. كما لو أنه يغني من قلبه وليس من حنجرته. هذا ليس تطريبًا، وإن كان يحيل إلى بعضه، خصوصًا في أغنية "بدي غني للناس". لكنه يعلمك منذ اللحظة الأولى بفجيعة استحالة الطرب، أو صعوبته لأكون أكثر تفاؤلًا.
أحمد قعبور في الأغنيات التي لحنها وغناها مؤخرًا يشبه المخنوق، كما لو أنه يغني من قلبه وليس من حنجرته
يغني، الأرجح أنه لا يفعل، إنه يطعنك في ذاكرتك، وتكاد تخجل من كونك يوم أمس كنت تصدح بصوتك مع أم كلثوم وترافقها في غناء "شمس الأصيل". إذ كيف يمكنك أن تستحضر الطرب وأنت مخنوق؟ حتى كلمات الأغاني التي تدفعك إلى التفكير، والتفكير أمل أيضًا، وتحضك على التأمل، والتأمل يمكن تعريفه كتفاؤل بأن المرء سيعيش يومًا إضافيًا ليحول هذا التأمل إلى فكرة. حتى هذه الكلمات المشغولة بعناية وحب، تغيب خلف الصوت الطالع من غصة القلب. أحمد قعبور يغني لبيروت التي لم تعد موجودة. يمكنني أن أقول إنه يبكيها. هذا مع أن الموسيقى المرافقة توهمني كل حين أن ثمة طربا يلوح في الأفق، لكنه طرب خجول سرعان ما يختفي خلف غيمة الرثاء.
اقرأ/ي أيضًا: حوار| زياد عيتاني: الوطن هو الناس الذين يشبهوننا
لقد استمعت إلى الأغاني وأجرؤ على القول إنني سمعته، لكنني بخلاف قدرته على إيصال حشرجة روحه، لا أجد في نفسي القدرة على إصدار أي نأمة. أنا مثله أبكي بيروت، ومن المؤكد أنني أبكيها بلا صوت.
اقرأ/ي أيضًا: