لم يعد مثيرًا للدّهشة أن تُقدم مؤسسة ثقافية أو علمية أو جامعية في إسرائيل على سرقة ما، بالنّظر إلى قيام الدّولة على سرقة المكان أصلًا، وتوريط مؤسّساتها في تبرير سطوها على تعابيره الفنية وأرصدته الحضارية المختلفة.
لم يعد مثيرًا للدّهشة أن تُقدم مؤسسة ثقافية أو علمية أو جامعية في إسرائيل على سرقة ما، بالنّظر إلى قيام الدّولة على سرقة المكان أصلًا
كنت صغيرًا، وكان يدهشني أنّ النّاس لا يعاقبون فتى يُقدم على أفعال منبوذة مثل سرقة المواشي وحرق الزّروع. سألت أحدهم يومًا عن تقاعسهم في متابعته، فقال لي إنّه مجهول النّسب وإنّهم يتوقّعون منه كلّ شيء.
اقرأ/ي أيضًا: كيف يساهم "مناهضو التطبيع" في تفتيت الإجماع ضده؟
بهذا المنطق، أقدمت دار "ريسلينغ" للنّشر في إسرائيل على تكليف أستاذ الدّراسات العربية، في جامعة بن غوريون بالنّقب، ألوت فرغمان بجمع نصوص قصصية لكاتبات عربيات، قصد نشرها في أنطولوجيا بعد ترجمتها إلى اللّغة العبرية.
حدث هذا في لغات عديدة مع دور نشر معروفة، فالأنطولوجيات تختصر على القارئ الوقت والجهد لمعرفة مدوّنة أدبية معيّنة في لغة ما، بالنّظر إلى قيامها على الانتقاء النّوعي، غير أنّ هذه الدّور فعلت ذلك وفق الأصول، مثل استشارة الكتّاب المعنيين وأخذ موافقتهم، ثمّ دفع مستحقاتهم، وهذا ما لم تفعله دار النّشر الإسرائيلية مع الكاتبات العربيات، اللّواتي صدمن بانتقال قصصهنّ إلى لغة أخرى من غير علمهنّ.
لا معنى أن يقع في هذا المطبّ طرفان مطالبان أكثر من الأطراف الأخرى بالنّزاهة العلمية، هما النّاشر الذي نشر الكتاب، والباحث الجامعيّ الذي جمع نصوصه وترجمها، سوى أنّ منظومتي النّشر والبحث الجامعي في إسرائيل، وللحادثة أخواتها الكثيرات في الماضي الإسرائيلي، تسخّران الكتاب والعلوم والمعارف والمناهج في تزييف الحقائق لا في إثباتها، حتى تعطيا مصداقية للكيان المفتعل في التّاريخ والجغرافيا.
هنا، على المؤسّسات الجامعية والأكاديمية العربية أن تنتبه إلى تقصيرها الفادح في التّنويه برفض مؤسّسات أكاديمية وازنة في القارّات الخمس أن تتعامل مع المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، لثبوت عدم نزاهتها العلمية واعتمادها على تسخير العلوم لتزييف الحقائق العلمية نفسها، خاصّة تلك المتعلّقة بالتّاريخ والأنثروبولوجيا واللّسانيات وعلوم الإنسان، وهي كلّها علوم ليست في صالح مقولات الاحتلال الإسرائيلي حين يتمّ تناولها وفق معايير العلم لا الوهم.
لقد ظلّت إسرائيل تعاني من هذا العزل الأكاديمي في العالم، بالنّظر إلى أنّ المؤسّسات العازلة ذات قيمة علمية وتاريخية، وتملك القدرة على نسف مقولاتها علميًا، بما يضعها في حرج شديد أمام الرّأي العام العالمي. وكانت هذه المعاناة ستتضاعف لو أنّ العرب انتبهوا إلى هذا المعطى وعملوا على التّرويج له والتّنسيق مع المؤسّسات والهيئات العالمية المؤهلة لأن تتعاطف معهم.
هنا نسأل: كم من مرّة رفع العرب قضايا دولية ضدّ إسرائيل بسبب أنّها سرقت الفلسطينيين فنّيًا وثقافيًّا؟ أعتقد أنّنا نجد الإجابة في المثل الشّعبي الجزائريّ القائل: "المال السّايب يعلّم السّرقة".
ثمّ ما معنى أن تختار دار النّشر الإسرائيلية كلمة "حرّيّة" لتكون عنوانًا لكتابها، بينما هي ليست حرّة، من المنظور العلمي والأخلاقي، في سرقة الآخرين؟ لماذا اللّعب على وتر النّسوية في الفضاء العربي؟ صحيح أنّ الكاتبة العربية تعاني داخله، وهي تبذل من الجهود والمكابدات، منذ النّصف الأوّل من القرن العشرين ما يحقّق لها حضورًا كافيًا ومنصفًا وفعّالًا، لكن هل يجوز لقاتل الأطفال أن يدافع عن حرّيّة النّساء؟
كنّا صغارًا في القرية، فأقدمنا ذات صبيحة على الأكل من تينة أحدهم. ولمّا سألنا، بعد أن قبض علينا، عن السّبب الذي جعلنا لا نطلب منه الإذن، قلنا له إنّنا كنّا نعتقد أنّك لن تسمح لنا بذلك، فقال: كنتم حينها مطالبين بأن تحرموا أنفسكم من التّين لا أن تسطوا عليه.
ما معنى أن تختار دار النّشر الإسرائيلية كلمة "حرّيّة" لتكون عنوانًا لكتابها، بينما هي ليست حرّة، من المنظور العلمي والأخلاقي، في سرقة الآخرين؟
تقودنا هذه الحادثة الطّفولية إلى القول إنّ الباحث والنّاشر الإسرائيليين كانا يعتقدان جزمًا أنّ الكاتبات العربيات سيرفضن التعامل معهما حتمًا، فقاما بتجاوزهنّ كي يتفاديا فخّ الرّفض، ويُعطيا انطباعًا بأنّ هناك ليونة من النّخبة العربية في التعامل مع المشهد الثّقافي الإسرائيلي، وهذا ما نسفته بيانات الاحتجاج والإدانة، التّي نشرتها الكاتبات المتحايَل عليهن.
اقرأ/ي أيضًا: "المكان" لإملي نصر الله.. أسرار الكتابة وكواليسها
إنّ عددهنّ ليس بسيطًا، وقيمتهنّ الإبداعية ليست هيّنة، وهنّ مدعوات إلى أن يتشكّلن في تنظيم معنوي لمقاضاة النّاشر المحتال، على مستوى دولي عالٍ، فيكون ذلك نواة لتشكيل جبهة ثقافية عربية ترفض التّطبيع، فالمساعي التي لا تؤنّث لا يعوّل عليها.
اقرأ/ي أيضًا: