استطاع الفن المصري الدرامي أن يشكّل بمجموعه الذاكرة الإبداعية الجمعية للشعوب العربية، إذا تعد الإنتاجات السينمائية، ومن بعدها التلفزيونية، واحدة من أهم معالم الهوية الثقافية العربية المشتركة، ومن جانب آخر عدت الدراما المصرية بمختلف أنواعها الأداة الحية والحيوية التي منحت مصر ثقلها ووزنها السياسي والاجتماعي المميز في الثقافة الاجتماعية في البلدان العربية، مشرقًا ومغربًا. فالبرامج الإذاعية الغنائية المصرية كانت المادة الأدسم للإذاعات المحلية العربية وعلى رأس أولويات برنامجها العام، ناهيك عن الإنتاجات السينمائية التي رسمت ملامح ذائقة عربية مشتركة، ومهدت الطريق أمام صناعة الترفيه بوصفها مثلًا يحتذى به، وسوف يكون أعمق الأثر في التأسيس لدراما محلية لكل بلد عربي على حدة. ولا عجب أن يكون لمصر كل هذا التأثير في صياغة الحركة الفنية على المستوى العربي وهي التي كانت سباقة في الإنتاج السينمائي أولًا، ثم الإذاعي، وصولًا إلى إنتاج الدراما التلفزيونية.
في عشرينات القرن الفائت، تخطت دور السينما في مصر الـ85 دار عرض، وكانت السينما بمثابة "تلفزيون الشعب" العام
في عشرينات القرن الفائت، تخطت دور السينما في مصر الـ85 دار عرض، وكانت السينما بمثابة "تلفزيون الشعب" العام، لكن الصناعة السينمائية كانت تميل أكثر نحو صناعة الترفيه أكثر وطبعت المظاهر الملكية والتأثر بالسينما الأوروبية البدايات بطابعها، حتى شهدت السينما المصرية عصرها الذهبي في الأربعينيات والخمسينات من القرن.
تخلل ذلك إطلاق أول إذاعة رسمية بصيغة الموجات الطويلة في العالم العربي عام 1934، ورغم أن نشأة مفهوم الإذاعة في مصر سابقة لهذا التاريخ، لكن على شكل موجات قصيرة وحدود محلية، إلا أن البث الرسمي لإذاعة على الموجات الطويلة كان في هذا العام كأول إذاعة عربية، وسنبين كيف أثّر هذا السبق على مستوى السينما والإذاعة في تمهيد الطريق أمام الدراما التلفزيونية، ثم جعلها تقوم بقفزات نوعية واختزال مراحل كثيرة، وصولًا إلى شكلها الحالي، ومن جانب آخر كيف ساهمت عملية التطور المتسارعة لمفهوم إنتاج الدراما التلفزيونية في مصر بنهوض الدرامات العربية المحلية في وقت قياسي، وجعلها على درجة من التأهيل والقدرة على المنافسة والتفوق أحيانًا.
بدأ بث التلفزيون المصري رسميًا عام 1960، وسبقه، كما أسلفنا، إرث تراكمي من الإنتاج السينمائي والإذاعي، وكان لا بد أن يكون لهذا الإرث، قصير المدى الزمني، دور كبير في رسم الصورة التي ستكون عليها هذه الدراما، لكن المفارقة أن التأثير الإذاعي في الدراما التلفزيونية المصرية كان أثره أكبر من تأثير السياق السينمائي، في المقام الأول على مستوى النص الدرامي، فبدت المسلسلات التلفزيونية وكأنها تلفزة لنصوص إذاعية على مستوى أسلوب الكتابة واللغة الدرامية.
أول هذه الإنتاجات كان مسلسل "هارب من الأيام" الذي بث عام 1962 وكان من تأليف فيصل ندا وبطولة توفيق الدقن وعبدالله غيث، وتدور أحداثه حول طبال فقير في إحدى قرى مصر يتعرض للتنمر والسخرية من أهل القرية. ينتقم هذا الطبال منهم بأن يتخفى ويقوم بسرقة بيوتهم، ويشيع الفزع والرعب بينهم، دون أن يعرفوا انه هو الفاعل إلى أن يتم الإمساك به في النهاية.
غلبت الطبيعة الإذاعية على هذه الأعمال من ناحية قصر عدد الحلقات، وغياب التداخل والتشابك الزماني والمكاني على مستوى الحدث، وكأنه سرد متلفز لقصة إذاعية. كما في مسلسل "القط الأسود" من بطولة توفيق الدقن وعمر الحريري، وكان عدد حلقاته 8 حلقات فقط.
ظلت بعد ذلك الدراما التلفزيونية تتلمس طريقها، تتجاذبها تأثيرات الدراما الإذاعية تارة، وتأثيرات اللغة السينمائية تارة أخرى، لكنها وعلى مدى عقدين كانت تشكل ملامح نص درامي تلفزيوني تخصصي.
كانت النقلة النوعية مع بداية الثمانينات وحتى أواخر التسعينات، وهي الفترة التي تعد من أهم فترات الكتابة للصورة على المستوى التلفزيوني، هذه الفترة تزامنت مع دخول التمويل الخاص "الخليجي" وخروج الدراما التلفزيونية المصرية من عباءة التلفزيون المصري الرسمي إلى فضاءات الربح والإنتاج بالمفهوم التجاري.
جاءت النقلة النوعية في الدراما المصرية في بداية الثمانينات وحتى أواخر التسعينات، وهي الفترة التي تعد من أهم فترات الكتابة للصورة على المستوى التلفزيوني
بلّور في هذه المرحلة كتّاب من أمثال أسامة أنور عكاشة ومحمد جلال عبد القوي. وظهر إلى جانبهم الكاتب وحيد حامد، ومحفوظ عبد الرحمن، فذهبوا بالنص الدرامي من الصيغة الحكائية الوعظية إلى مفهوم نص المسلسل الدرامي، والذي اقترب أكثر من القضايا الاجتماعية المصرية ذات الحساسية العالية، وطوروا مفهوم الشخصية الدرامية التلفزيونية من حيث أزمة الشخصية وتحولاتها وصراعتها الداخلية، فكان مسلسل مثل "ليالي الحلمية" من تأليف أسامة أنور عكاشة ومن إخراج إسماعيل عبد الحافظ، وتدور قصة المسلسل على مدى خمسة أجزاء حول صراع طبقي بين عائلة سليم البدري، والذي أدى شخصيته يحيى الفخراني، وبين سليمان غانم، الذي أدى شخصيته صلاح السعدني، إذ جاء العمدة الفلاح سليمان غانم ليثأر من عائلة البدري الأرستقراطية متمثلة بسليم البدري، فتتشابك الأحداث والصراعات في حي الحلمية الذي كان حيًا محسوبًا على الطبقة الأرستقراطية أيام الملكية، ليصبح حيًّا متداخلًا يضم حطام الأرستقراطية وفئات من الطبقة الوسطى وما دون. وصراع العائلتين هو انعكاس لصراعات التحول السياسي والاجتماعي في مصر إبان انتهاء الملكية وسيطرة العسكر على الحكم.
بلورت الدراما التلفزيونية المصرية بعد ذلك مفهوم السيناريو التلفزيوني المكتوب خصيصًا للمسلسل، وصارت أكثر جرأة في الاقتباس من الأدب الروائي وتحويله إلى مسلسلات تلفزيونية عاشت حتى الآن مع المشاهد العربي، ومن أهم كلاسيكيات الدراما التلفزيونية المصرية "لن أعيش في جلباب أبي" للروائي المصري إحسان عبدو القدوس، الذي تصدى لوضعها في قالب السيناريو التلفزيوني ونسج حواراته السيناريست مصطفى محرم. وهو من بطولة نور الشريف وعبلة كامل وعبد الرحمن أبو زهرة. وتدور أحداثه حول قصة الصعود من القاع والارتقاء بسلم المكانة الاجتماعية، إذ ينجح عبد الغفور البرعي (نور الشريف) من البدء كعامل بسيط لدى الحاج إبراهيم سردينة (عبد الرحمن أبو زهرة) ولا يلبث أن يكسب ثقته ويتدرج في التجارة حتى يستقل، رغم صعوبات جمة عاقت رحلة صعوده، لكنه ينجح ويصبح واحدًا من أنجح رجال الأعمال في مصر.
شقت هذه الكلاسيكيات الدرامية المصرية، على مستوى الكتابة للصورة، طريقًا وعرة للاستقلال بنفسها عن أنماط الكتابة الإبداعية الأخرى في السينما والإذاعة، وفي زمن قياسي استطاعت أن تطور مفهومًا ابتكاريًا للكتابة للصورة، اقترب في البداية من الحياة الاجتماعية أكثر، ودخل في عوالمها وتناقضاتها وتمرس بها، ثم صار هذا المفهوم أكثر جرأة، واقترب من الرواية واستطاع أن يعيد نظمها في إطار السيناريو التلفزيوني الذي يفترق عن السيناريو السينمائي والحكاية الإذاعية، لتصبح هذه الكلاسيكيات الدرامية مرجعًا مهمًا لكل صناع الدراما المعاصرين في العالم العربي.