حين يحصل انسجام ما بين رجل وامرأة يتجاوران على مقعدين في قطار. يحدث أن يحاولا استغلال الوقت الضئيل الذي يملكانه ليكتشفا مستقبل العلاقة بينهما. ويحدث كثيرًا أن يفترقا من دون أي أمل بلقاء جديد. هذا في حد ذاته شأن رياضي. أما الرغبة والتحسر على عدم استغلال الفرصة التي أتيحت، وقد لا تتاح مرة أخرى، فهي شأن فلسفي.
نحن نعيش اليوم في عالم تحكمه الرياضيات أكثر مما تحكمه الفلسفة. الرياضيات التي تجد موئلها الأعمق والأكثر تمويها في نشرات الأخبار، والمباريات الرياضية، وبرامج البث المباشر
والحق، نحن نعيش اليوم في عالم تحكمه الرياضيات أكثر مما تحكمه الفلسفة. الرياضيات التي تجد موئلها الأعمق والأكثر تمويها في نشرات الأخبار، والمباريات الرياضية. وبرامج البث المباشر. ما يحصل في هذه البرامج يحصل لمرة واحدة. ولا يحدث أن نعيده. ثمة أهداف أخرى ستتحقق في مباريات جديدة وعلينا أن نتابعها مباشرة وأن ننفعل حين يخفق اللاعب في إحراز الهدف وحين ينجح في تحقيقه على حد سواء.
ما الذي نشاهده في مباريات كرة قدم حقيقة؟ نحن نشاهد طيلة الوقت الفرص الضائعة، (حياتنا هي كذلك أصلًا). يركض اللاعبون ولا يحققون أهدافًا. هم يركضون ونحن نأمل. لا حدث يحدث بين الهدفين. الحدث هو الهدف. وحين يتحقق، تنتهي ضرورة المباراة. عدد قليل من الثواني، هي المسافة بين قدم اللاعب وشباك الهدف، هي كل ما نريد التيقن من تحققه في هذه المباراة. في الأثناء، نحن نتسمر أمام الشاشة لنشاهد محاولات فاشلة، رقصات غير مغوية، ركض بلا هدف. إلى أن تسعفنا المصادفة والمهارة ويتحقق الهدف. في هذه اللحظة يفقد البث المباشر كل أهميته. بمعنى أننا ونحن نشاهد المباراة نكون كمن يترقب ما يمكن ألا يحصل. وإن حصل يصبح خبرًا، أو حدثًا. على هذا لن نستعيد مشاهدة مباراة كرة قدم، لأننا في حقيقة الأمر نعرف توقيت الأهداف وأسماء مسجليها. إعادة مشاهدة المباراة يحمل في طياته شعورًا بأننا نضيع وقتنا على ما لا طائل منه. نحن نشاهد المباريات لأننا نتوقع هدفا، وما دام الهدف قد تحقق في مباراة الأمس فلا جدوى من انتظاره اليوم بعد ساعات على تحققه. إنه العقل الرياضي في أنقى صوره.
على النحو نفسه، نحن نشاهد القصف على مدينة ما لأننا نتوقع سقوط ضحايا. حتى لو لم نر الضحايا على شاشاتنا، فإن المذيع أو المذيعة سينبئاننا أن هذه الانفجارات خلفت عددًا من القتلى والجرحى. في اليوم التالي، لن نعود إلى هؤلاء القتلى وسنتركهم لأهلهم. وسنفتش بكل وقتنا المتاح عن مدينة أخرى تتعرض للقصف، وقذيفة أخرى وقتيل آخر.
في الحياة نحن لا نسلك هذه المسالك دائمًا. إذ قد يعجب رجل بامرأة، وسرعان ما ينتقل من الإعجاب إلى العشق. وفي وسع العشاق كل يوم أن يكرروا القبلة نفسها، والحديث نفسه. التكرار في الحياة يشكلها. لكننا حين نريد أن نتذكر، تطغى الأحداث على ذكرياتنا. كم رجلًا مر في حياة هذه الفتاة؟ كم سيارة اقتنى هذا الرجل؟ كم مليونًا تملك أوبرا وينفري؟ وبخلاف هذا التعداد، لا يحضر كل الرجال الذين مروا في حياة هذه الفتاة في يومياتنا، ولا كل الملايين التي جنتها أوبرا وينفري، ما يحضر حقيقة هو تكرار العادات اليومية: النهوض في الساعة الفلانية، غسل الوجه والأسنان، شرب القهوة، تقبيل الشريك قبل الخروج من البيت وقيادة السيارة إلى مكان العمل. لا يهم من هو الشريك المهم أننا قبلناه، ونوعية السيارة لا تهم فالحدث هو قيادتنا لها ووصولنا إلى مكان العمل. وليس مهما نوع معجون الأسنان والصابون، المهم ما رأيناه في المرآة.
والحق إن محاولة التعرف على ما نراه في المرآة هو شأن بالغ الأهمية. نحن ننظر في المرآة، وننسى وجهنا السابق. نحفظ وجه اليوم. وننطلق لملاقاة الناس به. غالبًا ما نحاول أن نقولب وجوهنا لتكوين الصورة أو الشخصية التي نريد إظهارها للآخرين. لكننا أبدًا لا نستطيع تذكر وجهنا كما كان منذ سنوات. المرات القليلة التي نتذكر فيها وجوهنا السابقة، هي حين نقلّب ألبومات الصور القديمة. ونتذكر أنفسنا في تلك الفترة. وبصرف النظر عن مظهرنا في تلك الصور، إلا أن ما نتذكره، هو طريقتنا في اختيار أزيائنا، والتي يحدث أن نخجل منها، تسريحاتنا التي غبرت درجتها ولم تعد لائقة. وفي كثير من الأحيان تصبح صورنا هي سرنا الذي لا نريد أن نطلع أحدًا عليه.
علاقتنا بالمرآة، هي علاقتنا بالفرص الضائعة التي نزعم أننا أجدنا استغلالها ولم نضيعها. علاقتنا بالمرآة تشبه ماضينا المشبع بالأحداث التي لم تحدث إلا في خيالنا، والتي نزعم أننا نستطيع أن نصنع منها دروسًا للآخرين. صلفنا وجهلنا الذي نريد أن نخفيه عن أعيننا، ولا نتذكره ولا نريد لأحد أن يذكرنا به. تسامحنا مع أخطاء الآخرين والرجاء أن يسامحنا الآخرون على أخطائنا. نحن ننظر في المرآة لنجمّل ماضينا، أو لننكره إن لم يكن تجميله ممكنا.
تاريخنا بهذا المعنى هو تاريخ إخفاقاتنا. الأهداف التي لم نسجلها في شباك الأيام والناس. ماضينا في الحقيقة هو الوقت الضائع الذي يمضيه اللاعبون ركضًا ولهاثًا قبل تسجيل الهدف. وحين نسجل الهدف ندونه وننسى ما سبقه وما تلاه. ذلك أن كل هذا الفشل الذي لا تعد ساعاته وأيامه، مكننا من أن نتوجه بلحظة إنجاز.
في لحظة ما من لحظات حياتنا ندرك أن الحياة حقًا هي تلك التي وصفتها الفلسفة ولم تكن مرة هذه التي تعرّفها الرياضيات
في حقيقة الأمر نحن ننظر إلى أنفسنا وماضينا بعين المتفلسف. لكننا حين نعرب عن أنفسنا وماضينا نتحول إلى رياضيين. نعدد إنجازاتنا: ملاييننا، مناصبنا، عشاقنا، ممتلكاتنا. ونادرًا ما ننجح في وصف طعم الطعام الذي ما زالت خلايا دماغنا تتذكره جيدًا. نكتفي بأن الآخر يفهمنا ويعرفه من دون حاجة لوصفنا. سنصف النادلة الجميلة، والمطعم الفخم، لكننا لن ننجح في وصف الطعم. وعلى النحو نفسه، سنصف طول الفتاة التي رافقتنا ووزنها وشكل جسمها، لكننا لن ننجح في وصف المشاعر التي تعترينا حين نكون معها. وسنعلن أننا نملك ما يكفينا من النقود لنعيش حياة هانئة، لكننا سنعجز عن تخيل الفارق بين المتعة التي حققناها في المأكل والمشرب والجنس، كمقتدرين رياضيين وبين متعة من لا يملك من حطام الدنيا غير قوت يومه. والأرجح أن المتعتين متقاربتين من حيث عمقهما. لكننا ننكر على الأقل مرتبة متعته.
ما الذي يحيلنا إليه هذا السرد؟
هذا السرد يريد التقرير بأن الفلسفة لم تكن مرة مرشدًا لنا. وكان يجدر بنا أن نعتمدها مرشدًا. وأن حيواتنا كلها اعتمدت على منطق الحساب الرياضي. هذا المنطق الذي يحكمه واقع أنه لا نهائي، فالمليون يليه ملايين لا حد لها، والعشيق يليه عشاق لا يحصون عددًا، والممتلكات تليها ممتلكات لا تتسع لها مخيلتنا. في حين أننا في لحظة ما من لحظات حياتنا ندرك أن الحياة حقًا هي تلك التي وصفتها الفلسفة ولم تكن مرة هذه التي تعرّفها الرياضيات.