يا لها من سنة تعيسة، أربعة وجوه سقطت تباعًا بضربة واحدة. هي ضربة الموت نفسها التي حصدت سمير أمين أولًا، وسلامة كيلة بعده، وبعدهما بشير السباعي، والآن الطيب تيزيني. بقاسم مشتركٍ يجمع الجميع؛ هو الانتماء للفكرة التقدمية. هكذا نجد أنفسنا أمام وجوب خط نعي آخر، قد يفكر القارئ كونه اختصاص عائلة الفقيد، كما يصنف الكاتب نفسه واحدًا من هذه العائلة، بما هو أحد القراء الأوفياء لمشروع الراحل، وبما هي علاقة الكاتب بقارئه حميمية تحقق نفس صفة علاقة القرابة.
جسّد طيب تيزيني النموذج الكامل لما خطه غرامشي من قبل، أي مثقَّفٌ يعيش الالتحام بالجماهير فكرًا وممارسة
بيد أن ما يثنينا على فعل ذلك عائد إلى الفكرة القائلة بأن التيزيني لا زال حيًا في كتاباته، وثانيًا كون النعي، وحده، لا يسع شخص تيزيني كمفكر حامل لمشروع النهضة العربية. هكذا يتسرب مشروع الراحل إلى صلب الكلمات، ومن منظور منهجه ننطق الصمت الذي رحل فيه، ليرسم الصدى صورة كاملة لأحد المراجع الفذة في قراءة تراثنَا العربي.
إنَّا لحمصٍ وإنا إليها راجعون
من حمص بدأت مسيرة الراحل، وإليها عاد ليلفظ أنفاسه الأخيرة، هكذَا كانت حياة تيزيني كاملة بين حمص وحمص. الأولى التي ولد بها سنة 1934، وانطلق منها نحو تركيا أولًا، ثم بريطانيا، ليستقر أخيرًا بألمانيا طالبًا للفلسفة من منبعها الخالص. حاصلًا على الدكتوراه في ذلك الاختصاص الذي شغفه، لم ينفصل حتى في أطروحته الدراسية عن أصله العربي، والتي كان موضوعها: تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة.
اقرأ/ي أيضًا: المركز العربي يبحث في مآلات الثورة السورية بعد سبع سنوات على انطلاقها
قبل هذه النقطة من مسيرته كما في باقي حياته، جسّد طيب تيزيني النموذج الكامل لما خطه غرامشي من قبل؛ أي مثقَّفٌ يعيش الالتحام بالجماهير فكرًا وممارسة. بهذَا الكيف ارتبط العمل الفكري الثقافي عنده بالعمل السياسي، كما يوضح ذلك في أحد حواراته: "في الحقيقة هنالك بعض الجذور التي تشدني إلي السياسة فكرًا وممارسة، فلقد أسهمت في بعض الأحزاب اليسارية التي نشأت في سوريا لفترة زمنية كنت بعدها أعود إلى العمل الفكري خصوصًا بصيغة الفكر السياسي، لذلك فالتجارب التي عشتها في أحزاب سياسية معينة كانت تقدم لي تجربة عميقة، سعيت وأسعى إلي التنظير لها في إطار الفكر السياسي العربي، وقد تعمق هذا الاتجاه لدي حين لاحظت ضرورة العودة إلي الفكر السياسي العربي في التاريخ العربي علي نحو العموم، فكتبت مثلاً بعض كتاباتي التي امتزجت باهتمام عميق بالسياسة وبالفكر السياسي".
من هكذا ارتباط لتيزيني، وهو المفكر الماركسي القومي، كانت دائمًا حمص حاضرة حتى في الأيام التي تبكي فيها دماء الغزو الروسي وإجرام الأسد، بكى تيزيني شهداءها وبكاها شهيدة في مأساة "ساعة حمص".
بعدما كان أحد الذين خرجوا تنديدًا بدكتاتورية النظام إبان ربيعنا العربي المغتال، رسمت مواقفه الشرسة ضد الأسد ونظامه شجاعة الرجل الذي لم ترهبه لا ويلات الاعتقال التي عانى منها، ولا الضرب أو الإهانة. كان همه الوحيد هو سوريا التي أدمت قلبه، وهو يشاهدها تتفكك تحت عينيه، يتكالبها الغزاة وينهش لحمها الإرهاب.
عين على التراث
أبرز ما يذكر به طيب تيزيني هو انكبابه للاشتغال على التراث وتقديم قراءات له. قراءات من ضمن تلك التي يحدد المفكر المغربي محمد عابد الجابري كونها: "ليست مجرد بحث أو دراسات تحليلية، لأنها تقترح معنى يجعله (أي التراث) في آنٍ واحد ذا معنى لمحيطه الفكري-الاجتماعي-السياسي، وأيضًا بالنسبة لنا نحن القارئين" (نحن والتراث، محمد عابد الجابري). بما هي، أي تلك القراءات، في عمقها محمولة على نفس الطموح؛ طموح النهضة العربية التي شغلت طيب تيزيني وجيله من المفكرين العرب.
وكما كان لكل منهم منهجه، انفرد تيزيني بمنهج هو قراءة التراث بعين المادية التاريخية، بكشف الجدل الداخلي والمحرك والمنتج لهذا التراث في شكله التاريخي. عنه يوضح، في كتابه من التراث إلى الثورة، أنه ينبغي بحث التراث "في ضوء منهجية تراثية علمية، تأخذ بعين الاعتبار الحركة العميقة الذاتية (الداخلية) للتراث العربي". من هكذا منهج، يسترسل في بسط رؤيته، ويحدد قراءة التراث في خطوتين: الأولى هي الموضوعية العلمية في توثيقه، والثانية الاختيار التاريخي في تفسيره.
لا يكتسب المنهج عند تيزيني أهميته من جانب الأدوات المعرفية والإجرائية فحسب، بل من الجانب الأيديولوجي أيضًا، باعتبار أن الاختيار المنهجي لا يعبر عن رغبة ذاتية بقدر ما هو ضرورة مرحلية، تاريخية واجتماعية. بهذا يؤكد المفكر السوري صواب اختياره للمادية الجدلية، بوصفها علم التاريخ الذي يقدم رؤية واضحة للتاريخ الإنساني ونموه الذاتي من خلال كشف محرك هذا النمو. وبالتالي ينفذ عميقًا في معرفة فاعلية الإنتاج التراثي العربي الإسلامي من جهة، ومن جهة أخرى ينظر إلى هذا التراث كمرحلة ضمن سيرورة الإنتاج التراثي الإنساني الأشمل.
من المنهج إلى المشروع الحضاري
وكما سبق أن ذكرنا، ليس الاختيار المنهجي في فكر الراحل ضرورة أداتية مجردة، بل يستبطن قناعة مبدئية تحمل همّ النهضة العربية. ومن داخل هذا المنهج ينزع صفة الشذوذ التاريخي المزدوج عن التراث العربي الإسلامي؛ الشذوذ الداخلي الذي يضفي على التراث صفة المطلق، والشذوذ الخارجي الذي يسمه باللاعقلانية. يدعو الدكتور تيزيني إلى إعادة قراءة الفكر العربي منزلًا في إطار الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أنتجته اعتمادًا على المادية الجدلية، لإثبات تاريخية هذا الفكر والعدول عن اعتباره فكرًا جامدًا محنطًا.
يؤكد الطيب تيزيني صواب اختياره للمادية الجدلية، بوصفها علم التاريخ الذي يقدم رؤية واضحة للتاريخ الإنساني ونموه الذاتي
بهذا الكيف يكون التراث في تطوره بين جدل الماضي والحاضر مؤسسًا للحظة ثورية، فكرية وسياسية واجتماعية، تبتدئ من الوعي بفاعلية تطوره تلك ومحركها والإبداع من خلالها، وتنتهي إلى صدام مع أواليات تأبيد واقع الانتكاسة من استبداد الجمود الفكري واستعمارية المركزية الثقافية الغربية.
اقرأ/ي أيضًا: الفكر السياسي على خلفية الثورة السورية
اقرأ/ي أيضًا: