في منطقة الصالحية بجانب الكرخ من العاصمة بغداد، تقف بُشرى عند مدخل مرآب وسط العمارات السكنية. تحمل بيد بطاقات دخول السيارات، وبالأخرى تلوح للسائقين بالدخول أو التوقف عند مدخل المرآب. على كتفها علقت حقيبة صغيرة تجمع فيها ما تحصده من تعبها اليومي.
تظهر ملامح التعب على وجهها، وعلى لسانها جُمل من الآلام والحسرات. هي أم عراقية كانت ضحية مثل ملايين الضحايا في العراق الذين ظلموا بسبب أوضاعه السيئة. لكنها، تحاول التغاضي عن ما تمر به لتستمر بالعيش ومعها عائلتها.
تقول بُشرى، 46 عامًا، عامًا إنها تعيل تسعة أشخاص.. "زوجي المريض، وأربعة أبناء، وحفيدين. أخرج منذ السابعة صباحًا لأفتتح المرآب، وأغلقه في الحادية عشر ليلًا"
من أمام بشرى ومأساتها، تمر قوافل من المسؤولين الحكوميين وأعضاء البرلمان وغيرهم من رجالات السياسة بسياراتهم رباعية الدفع المظللة. فمرآبها لا يبعد سوى ثلاثمائة متر تقريبًا عن أعلى سلطتين تشريعية وتنفيذية في البلاد، وذات المسافة مع رئاسة الجمهورية. لكن شارع بعرض عشرة أمتار أو أقل، يفصلها عن وزارة الخارجية العراقية: "أقف في مرآب السيارات بانتظار زبائني وأنظر إلى أرتال المواكب المخصصة من أموال الشعب لحماية شخص أو شخصين، بينما لم تتكفل ذات الدولة برعاية الفقراء والمحتاجين"، تقول بُشرى.
قبل عامين كانت هذه المرأة تحصل على قوت يومها وعائلتها من كشك صغير قريب من المكان الذي تعمل فيه الآن، تبيع فيه الخضار والفواكه... "موظف مسؤول في أمانة بغداد طلب مني مبلغ عشرة آلاف دولار أمريكي مقابل عدم تهديم الكشك، وعندما رفضت ذلك هدمه، بحجة المخالفة القانونية"، تضيف بُشرى.
زوجها مريض ولا يقدر على العمل، وولدها الكبير مُصاب بمرض السكري ولديه طفلان تُعيلهما. أطفالها الثلاثة الآخرين لا يعملون، فأعمارهم دون العشرين ومنشغلين بدراستهم. تهتم كثيرًا بتفوقهم المدرسي. ويقول وسام الماجدي، وهو زبون يومي في الكراج الذي تُديره بُشرى، لـ"الترا صوت"، "أرى بشرى صباح كل يوم عند القدوم للعمل. تعُطيني أمل كبير بأن الحياة تستمر، ولا مجال لتراكم المصاعب فيها، فهي امرأة قهرت الظروف". يضيف وسام وهو عامل في المنطقة الخضراء التي تضم مقارًا حكومية وبعثات دبلوماسية أن: "بشرى واحدة من مئات العراقيات اللاتي دخلن مهن الرجال لتجاوز ظروف معيشتهن الصعبة".
لا يدرّ المرآب دخلًا كبيرًا عليها بالنسبة لما كانت تحصل عليه من بيع الخضار، لكنها لم تجد فرصة أخرى للعمل بإدارة مرآب فيه مايقارب الخمسين سيارة. كأي امرأة أخرى تتمنى بشرى العيش بشكل طبيعي مع عائلتها. أن تخرج وتعود للعمل الذي يُناسبها كامرأة، لكنها مع ذلك تقول: "الحمد لله على ما أنا عليه.. عليّ أن أعيل عائلتي مهما تعبت".
تمتلك هذه المرأة علاقة إيجابية بزبائنها. تتحدث معهم بلطف وهم يدخلون سياراتهم، وبذات اللطف يُعاملونها. تقضي أوقاتها في العمل بصف السيارات. يوميًا تصعد خلف مقود عشرين سيارة تقريبًا لصفهن. عندما دخل عليّ الفتلاوي لركن سيارته في المرآب، ابتسم من سؤال بشرى: "أين ستتجه، ومتى ستعود". بطريقة ساخرة رد علي: "أين صاحب المرآب، نادي لي أي من العاملين، ليس لدي وقت للمزاح".
كان الفتلاوي يعتقد بوجود كاميرا خفية قريبة منه عندما رأى بشرى تُخرج بطاقات السيارات من حقيبتها الصغيرة وتطلب منه أجور وقوف السيارة.فهو أول مرة يرى امرأة بهذه المهنة. لم يأبه لحديثها، واستمر بالطلب منها أن تُنادي العاملين في الكراج. يقول لـ"الترا صوت": "من المؤسف أن تعمل امرأة بهكذا مهنة شاقة في بلد تُهدر فيه مليارات الدولارات على مسؤولين لم يقدموا أية خدمة للمواطنين. هذه ليست مساواة. هذا ظلم".
لا تملّ من عملها الذي تُفرغ له ثلثي يومها فهو المكان الذي يدرّ عليها مصروفها اليومي لتُعيل عائلتها
رغم وجود نقاط تفتيش قريبة من مكان الكراج الذي تُديره بُشرى، وهي داخل منطقة شبه محصنة بشكل كامل، إلا أنها أخذت على عاتقها تفتيش السيارات الداخلة للمرآب. تقول بشرى: "أقوم بواجبين. تفتيش السيارات والبحث عن رزقي. تفتيش كل سيارة داخلة للمرآب أمر ضروري حرصًا على حياة الناس القريبة منه".
لا تمل من عملها الذي تُفرغ له ثلثي يومها، فهو المكان الذي يدر عليها مصروفها اليومي لتُعيل عائلتها وحفيديها اللذين زادا مشقتها وتعبها ضعفين. في الحادية عشر ليلًا من مساء كل يوم، تُنزل العارضة الحديدية المربوطة عند مدخل المرآب. تقفلها بشكل محكم، بعد أن توصي رجال الأمن القريبين منها بالانتباه من الكراج.
تعود لمنزلها الذي تركته في الصباح. تقول: "أرجع مُنهكة، وتعبة جدًا، لكن ما أقدمه لعائلتي وسرورهم بي، يجعلني أسعد الموجودين في هذا العالم".
اقرأ/ي أيضًا:
أم خليل القصّابة.. تتحدث عن "مهن القسوة"
أم أمين التي تختصر النكبتين