تزامن مهم، بين عودة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله للوعيد بالصلاة في القدس وتدمير إسرائيل، وحملة الأمن اللبناني على اللاجئين الفلسطينيين، من غلق أماكن عملهم وملاحقة العاملين منهم في المهن والحرف المحرمة عليهم، لا لشيء إلا لأنهم لاجئون فلسطينيون.
إن الاقتران المتماهي بين فلسطين والفلسطينيين هو شرط التحرر والتحرير، وشرط أولي لاعتبار أي خطاب مواجه لإسرائيل حقيقيًا لا مجرد تكتيك سياسي
التزامن يفسح فرصة للنظر في جوهر الخطاب عن فلسطين حين يُسقَط منه الفلسطينيون. ما يحدث في لبنان واضح، فأمين عام الحزب الذي يحكم قبضته على لبنان بقوته وبتوازناته الطائفية، لا يتوقف عن الحديث عن فلسطين، في حين يواجه الفلسطينيون اللاجئون في بلده سياسات قاتلة، تنتهي بهم إلى أحوال بائسة من الفقر والعنف أو السعي المستمر للهروب إلى شتات جديد.
التمعن في جوهر الخطاب عن فلسطين بدون الفلسطينيين، يذكّرنا بلا شك بجوهر الخطاب الصهيوني عن فلسطين، خطاب الانشغال بفلسطين مع إنكار وجود فلسطينيين يعيشون فيها. ومقولة "أرض بلا شعب" لا تحتاج الكثير من التوضيح، فثمة حق يهودي بفلسطين أرضًا مقدسة وخالية، فلسطين موجودة أما الفلسطينيون فليسوا موجودين.
اقرأ/ي أيضًا: حسن نصر الله.. وجه إيران الصريح
هذا الجوهر متضح في خطابات رائجة عن فلسطين، أهمها إلى جانب الخطاب الصهيوني، الخطاب الرسمي العربي، بشقيه الرئيسيين، خطاب معاداة إسرائيل الشعاراتي، والذي استخدمته النظم الاستبدادية لقمع شعوبها على اعتبار أي مطالبات لها بالإصلاح أو الديمقراطية بينما هي منشغلة بالحرب التي لا تنتهي مع إسرائيل، تعني الفتك بمعارضيها تحت ذرائع الأجندات الخارجية والتواطؤ مع العدو في استهداف المستبد وطغمته. ولا أدل على ذلك من حالة النظام السوري، حيث يُسوّى مخيم اليرموك بالأرض كما سوي قبل تل الزعتر ويُقتل الفلسطينيون تحت خطاب عن حرب غير مرئية مع إسرائيل عنوانها فلسطين، وقبل ذلك بمنح إسرائيل حدودًا هادئة آمنة ومنع أي فلسطيني أو سوري من مواجهتها فيها والتنكيل به.
وخطاب الحلول الاستسلامية والمقايضات التفاوضية، حيث فلسطين ملف تفاوضي لتحسين وضع إقليمي ضمن صفقات كبرى، بدءًا بأنظمة السلام المجاني مع إسرائيل بدون وجود لفلسطين وقضيتها في أجندتهم، وصولًا لدول تلعب بورقة فلسطين وتسليمها وفق أي حل أمريكي خطبًا لودّ أمريكا ودعمها.
وخطاب النظام السعودي في أجواء ما يسمى صفقة القرن، نموذج بالغ الوضوح حول الخطاب عن فلسطين مع إسقاط الفلسطينيين، حيث الموضوع فلسطين وصفقة قضيتها بدون وجود رأي للفلسطينيين ولا قرار، ومع سيل مواقف ترى الفلسطينيين عائقًا كونهم لم يوقّعوا على بياض ما لم يعرض عليهم حتى. ويتبرّم ساسة عرب من تضييع الفلسطينيين للفرص ثم يبلغوا مستوى جديدًا حين يقولون إن الصفقة ماضية وافق الفلسطينيون أم لا، ما يعني أن التفاوض العربي على فلسطين بطريقة ترمب لا علاقة للفلسطينيين به.
هذا الجوهر موجود أيضًا في خطاب جماعات سياسية فلسطينية، تُسقط الفلسطينيين. إما عن طريق احتكار استبدادي لتمثيلهم والقول بالنيابة عنهم والتوقيع أيضًا بالنيابة عنهم. أو عدم رؤيتهم جزءًا من المواجهة المستمرة مع الاحتلال، إما بسوقهم للمواجهة يومًا ومنعهم منها في يوم آخر، ثم إسقاط حاجات حياتهم وسبل عيشهم من حسابات المواجهة، أو استخدامها ورقة مساومة للضغط داخليًا على فرقاء السياسة الفلسطينية أو خارجيًا بطريقة تشبه ما تفعل نظم دول شمال أفريقيا مع الاتحاد الأوروبي مهددة بإفلات أمواج المهاجرين، أو إمساكهم، تبعًا لمكاسبها السياسية.
وبالإضافة إلى ما يكشفه هذا الجوهر الموجود في كل هذه الخطابات التي تحاول أن تبدو متنافرة، يغدو هذا الجوهر بمثابة مدخل أساسي لتفسير الفشل في تحقيق كل حامل له لأهدافه. فالخطابات أعلاه وحاملوها فشلوا ويفشلون في تحقيق غاياتهم من رفع هذه الشعارات. اللهم إلا إن كان وجود مجموعة من الشبيحة والمناصرين العميان المؤمنين بما يقولون يعد هدفًا في ذاته. فلا مقولة المشروع الصهيوني نجحت في طمس الوجود الفلسطيني الفعلي الذي يعد العقبة الوحيدة الباقية أمام هذا المشروع. ولا خطاب العداء الشعاراتي حرر فلسطين ولا أسكت معارضي الداخل ومنعهم من بلوغ ثورات ضد نظم الاستبداد، ولا التفاوض على فلسطين بدون رأي للفلسطينيين نجح في كسب أميركا، بل ترسخ الدور الفاشل لدول الانهزام العربي كضاغط على الفلسطينيين وحسب، لا طرفًا في تفاوض وقرار. وعلى مستوى القوى الفلسطينية يتبدى بوضوح غير مسبوق تعمق المآزق الناجمة عن تغييب رأي الفلسطينيين عن قرار قادتهم بل من تمثيلهم قبل أي شيء.
إن أي خطاب يدور حول فلسطين، لا يتلازم فيه ذكر فلسطين مع الفلسطينيين، أو لا يعتبر الفلسطينيين جزءا من المفردة "فلسطين" نفسها، هو خطاب أقرب إلى جوهر الخطاب الصهيوني من أي شيء آخر
إن أي خطاب أو ممارسة سياسية لا يندمج فيها الفلسطينيون بفلسطين، فيحيل كل منهما إلى الآخر لن يجد له أي حظ من تحقيق أهدافه، وسيكون لازمة فشل مستمر، بل إن هذا الاقتران المتماهي بين فلسطين والفلسطينيين هو شرط التحرر والتحرير، وشرط أولي لاعتبار أي خطاب مواجه لإسرائيل حقيقيًا لا مجرد تكتيك سياسي داخلي أو خارجي أو خزان رصيد شعبوي.
إن أي خطاب يدور حول فلسطين، لا يتلازم فيه ذكر فلسطين مع الفلسطينيين، أو لا يعتبر الفلسطينيين جزءًا من مفردة "فلسطين" نفسها، هو خطاب أقرب إلى جوهر الخطاب الصهيوني من أي شيء آخر.
اليوم في لبنان، لا صوت لحزب الله يختلف في موضوع اللاجئين الفلسطينيين عن أكثر المجموعات العنصرية اليمينية المتورطة بالدم الفلسطيني بالمخيمات قبل عقود. واستثناء الفلسطينيين من أي مشروع مواجهة مع إسرائيل في خطاب هؤلاء، يؤكد أنه مشروع خاص بهم لا يتعلق بالتحرير ويكفي معه كف الأذى عن دول نفوذهم. بل إن الأمر يبلغ حدًا عجيبًا، حين لا يفكر هؤلاء ولو من باب الأداء الإعلامي في طرح مواقف تناصر الفلسطينيين وتنتصر لحقهم في العيش أحرارًا. وذلك ببساطة لأن الفلسطيني في عرف هؤلاء غير موجود، بل هو عبء، يا حبذا لو يجد طريقه في البحر أو شاحنات التهريب إلى أوروبا ليذوب في أمواج اللاجئين ويترك الساحة لاحتكار الخطاب عن فلسطين بدون ضجة ولا شوشرة.
اقرأ/ي أيضًا: