أتذكر بداية معرفتي بكرة القدم كأنها الأمس، كانت يوم اعتزال الأسطورة المصرية كابتن محمود الخطيب "بيبو"، نجم النادي الأهلي السابق ومنتخب مصر، كنت طفلة صغيرة وكان الحدث سحريًا بين أطفال شارعنا، ترقّب شغوف لمباراة كبيرة بكثير من الدّموع والصّمت. والشارع خال إلّا منّا، فالكبار أمام التلفزيون في انتظار صافرة البداية غير مصدقين أنها آخر مباريات بيبو، أذكر كل جملة نبتت على لسان كل طفل كما تنبت الأحلام في أكثر المخيلات جدبًا، كنا نرمم الفراغات في دائرة تطوف حولها الحكايات ذات البطل الأوحد القويّ الجسور الذي ينتصر على الجميع بذكاء ومهارة، وكان بيبو هو البطل الذي فتح لنا أسراب الكلمات طوال الليل.
يوم اعتزال الأسطورة المصرية محمود الخطيب "بيبو"، نجم النادي الأهلي السابق ومنتخب مصر، كان الحدث سحريًا بين أطفال شارعنا
ما زلت أذكر كل شيء كأني شاركت في صناعته ولو ببضع نظرات أعجاب، وقت غروب، والعيون مفتوحة كمرمى فارغ ينتظر الأهداف التي تنتزع الصرخات من صدورنا وتجعل لأحلامنا الصغيرة صوتًا وحركة. الأطفال الأكبر منا قالوا إن المسؤولين سيلقون علينا تيشرتات الأهلي وكرات موقعة من بيبو شخصيًا، ظلننا طول اليوم ننتظر الهدايا والكرات، والسماء مثل الكبار ظلت حزينة والصمت عزاؤها شبه المتضامن معنا، كل ما وجدناه يومها هو الدموع، دموع بيبو.
يومها بكيت، عرفت أنني سأكون مثله، وأن كرة القدم تشبه مرضًا لا شفاء منه، وقد انتقلت إليّ عدوى، دموعي أنا أيضًا صادقة وانتمائي لن يكسره هزيمة ولا اعتزال، ولدى النادي الأهلي ما يستحق الحزن عليه والبكاء، وبدأت أتابع المباريات بحماس أحيانًا وبتعصب في أحيان أخر كثيرة بالطبع، فهو الفريق الذي جعل جارنا ومحبوبنا بيبو يبكي على الشاشات والنادي الأهلي صاحب التاريخ العريق مصريًا وأفريقيا وطننا الصغير المتكفل بفرحة مشجعيه.
أتذكر أيضًا أنني تركت يدي تنزف إثر جرح عميق حزنًا على خسارتنا منذ بعض شهور، ولم أعالج الجرح إلا بعد نهاية المباراة، ربما هذا الجنون يعني أن كرة القدم غير آمنة على صحتنا، ولكن هذا الجنون وهذا الهوس ليس له علاج.
كنت أتابع الملخصات المتقنة التي يعدها كقصائد بارعة بلغة ساحرة علاء صادق في نهاية الأسبوع في برنامج أنباء وآراء على القناة الثانية المصرية، هذا الفاصل الممتع بعد أنباء الحروب والخراب والدّمار، الذي تناول كرة القدم المحلية والعالمية كأحد الفنون الجماعية التي يؤديها لاعبون موهوبون وعظام. كان يضع بين أيدينا أخبار الدوريات العالمية وتاريخ الأندية وتنقلات اللاعبين بأسلوب مدهش محترف لا يخلو من السخرية والنقد اللاذع وكلمات المديح أحيانًا، عرفني على الضفة الأخرى البعيدة لكرة القدم، اخترت وقتها نادي يوفنتوس وبرشلونة للتشجيع خارج مصر، ومنتخب إيطاليا أحببت شخصيتهم في الملعب وطريقة لعبهم، وكانوا منتخبي الأول في التشجيع في كأس العالم بعد مصر، وهما غير متواجدين للأسف في فيفا قطر 2022.
اليوم محتارة بين من سأشجع؟ الارجنتين وألمانيا وإسبانيا وأتابع مباريات البرازيل وإنجلترا وفرنسا، ومن قبلهم الفرق الأفريقية في كأس العالم، لم لا؟ يجب أن أتواجد بقواربي على الضفاف البعيدة ويكون لي أصدقاء أحبهم وأبكيهم.
هذه اللعبة اليوم هي المتنفس الوحيد بين وقت العمل أو المدرسة والنوم، وهي التسلية الرخيصة التي امتدت بطول الشوارع وشارك ويشارك فيها الجميع ببساطة بلا استثناء.
بكيتُ لخسارة الكاميرون بقدم سويسري من أصل كاميروني، شعرتُ بحزن صاحب الهدف والأسف الذي غمر ملامحه، كم هو مؤلم التنقل بين أوطان عدة بهويتنا القديمة! وكم هو صعب هذا الانتماء المبتور الذي يجعلنا جبناء غير قادرين على النظر إلى الخلف بحنين نظيف واطمئنان لا تذرف فيه الدموع تحت رايات صرنا لا نعرفها! قد تكون هذه هي إحدى هويات ومعالم الكرة الجديدة والحديثة.
كم هو مؤلم التنقل بين أوطان عدة بهويتنا القديمة! وكم هو صعب هذا الانتماء المبتور الذي يجعلنا جبناء غير قادرين على النظر إلى الخلف بحنين نظيف واطمئنان لا تذرف فيه الدموع تحت رايات صرنا لا نعرفها!
لنتخيل مشهد اللاعب هذا انسلاخ تام من الانتماء كأنه نباتات ظل بلا جذور.
في الشعر لا نذهب بعيدًا دون غصة، أنت تنتمي إلى شيء ما، تنتظر دورك كمشترك في لعبة حتى لو حملت راية التسلل وأرغمت الجماهير على الحزن حال الأهداف البيضاء، وليس كمشجع متحمس ليقظة تجمع اللاعبين في هدف، رغم أن الشعراء فاشلون في الصنعة واللعب الاحترافي، الشاعر يسير حاملًا إرثًا طويلًا من الاغتراب والأحزان التي لا تخصه وحده وتفاصيل الألم بجروحها العميقة، أعتقد أن هذا الثقل لن يجعلنا نكتب قصيدة خالية من الأخطاء بل سيجعلنا نكتب قصيدة جيدة مثل كرة القدم بكل مشاغباتها وعفويتها المهارية، هذه التلقائية هي ما يجعل القصيدة إنسانية تنتمي إلى الجميع بلا طموحات دون حواجز.