الحشد الذي يقابل مارلين مونرو في فيلم "شقراء" ( إخراج أندرو دومينيك وتمثيل آنا دي أرماس) لا حصر له. حشد من الرجال عمومًا وبعض النساء يهلل ويصفق لمرأى النجمة التي تعبر بسيارتها. فلاشات الكاميرات التي تلمع في العتمة لا تحصى أيضًا، وكلها تحاول أن تثبت لحامليها وللعالم كله، أن مارلين مونرو موجودة حقًا، وأن البهجة التي تبعثها في النفوس ليست نتاج مصانع أو أثر صنف جديد من المخدرات.
مارلين مونرو الخفيفة كمنام سقطت بكل سحرها على مجتمع كان ما يزال لا يعرف من متع الدنيا غير الشبع بعد جوع والنوم بعد إجهاد. مجتمع خارج للتو من كساد اقتصادي
مارلين مونرو الخفيفة كمنام سقطت بكل سحرها على مجتمع كان ما يزال لا يعرف من متع الدنيا غير الشبع بعد جوع والنوم بعد إجهاد. مجتمع خارج للتو من كساد اقتصادي، وخسارات لا تعوض في ميزان الاجتماع سببته الحرب العالمية الثانية، لم يكن ليستطيع أن يرى في مارلين غير كائن من كوكب آخر. كائن لا يعقل أن يكون قد عاش ضنكهم الذي اختبروه، إذا أن الضنك هذا يصنع أناسًا تشبه أناس هذا الحشد. أناس لا يصدقون أن ثمة في العالم مخلوق يمكنه أن يكون رقيقًا إلى هذا الحد ومرّحبًا بأمزجتهم إلى هذا الحد أيضًا. هي أيضًا كانت تستمتع بهياج هذا الحشد، بل أن نورمان مايلر يرجح أنها تمنت حين ارتفع فستانها الخفيف كاشفًا عن ساقيها ولباسها الداخلي، أن تسقط بين أحضان الحشد.
على هذه المعادلة التي تتلخص بشعور الحشد أن مارلين مونرو هي هدية أهديت إليه من السماء، وشعور مارلين بأن الحياة التي اختبرتها تبلغ من قسوتها ما يجعلها مستعدة للذوبان في الحشد كقطعة ساخنة من الزبدة. حتى لو التهمها حية، لم تكن مارلين لتمانع، ذلك أنها لم تكن من صنف البشر القادرين على معاقرة هذه الحياة الصلفة والجافة. وعلى نحو ما كانت تمشي في طريقها ولا تعرف متى قد تنكسر.
أرثر ميلر لم يصدق أن هذه الشقراء التي لا تشبه ماجدا التي يعرفها، قادرة على أن تُخرج من فمها المرحب جملة عميقة، لم يتردد في سؤالها: من قال لك ما تقولينه؟ لم يكن بإمكان مارلين أن تشبه ماجدا أرثر ميلر، ولم يكن بإمكانها أن تشبه أحدا آخر، لقد ولدت في غير وقتها. والأرجح أن ولادتها في ذلك الزمن الملتبس، سمح للأمريكيين أن يتجاوزوا زمنهم العبوس والمتشدد، ويقبلون الدخول في زمن مارلين الذي من صفاته الأولى أنه زمن تحقيق الأحلام. فالزمن الذي أشّرت مارلين إلى ابتدائه هو الزمن الذي تنتفي فيه الحاجة إلى قتل الآخر في سينما رعاة البقر، وهو الزمن الذي لا يصح فيه إعادة تمثيل الأهوال التي واجهها آلهة اليونان وأنصاف آلهتهم في سفن الخوف وقفار المفاجآت. إنه زمن البهجة الذي كان يدق أبواب العواصم وكانت مارلين رسولته التي لا تضارع.
في المحصلة، ثمة بين رجال هوليوود من كان يملك حدسًا كافيًا لإطلاق هذه القنبلة. لكن سحرها الذي يوحي بأن السعادة لا تحتاج لتحققها إلى كل هذا الجهد الذي يبذله الرجال والنساء على حد سواء. وأن العالم يمكن أن يضاء بنور البهجة لمجرد أن شقراء خفيفة مرت في شارع من شوارعه المعتمة. سحرها هذا هو ما منع العالم من التنكر لها، وما زالت موجودة في خياله الذي يرفرف خارج الزمن كما لو أنها لم تكن أكثر من حلم، لكنه حلم مستمر وثمة إصرار لا حد له على اقترافه كل يوم.
كانت مارلين، في حياتها، وفي أفلامها، وفي الفيلم الذي يكرمها بدرجة أقل، أحد أسباب هذا العالم لاختبار الحيرة. هذه امرأة جميلة ومثيرة، لكن الجميلات كثيرات. فما الذي نستطيع أن نفعله معها من دون أن يكون شبيها بما نفعله مع نساء جميلات أخريات؟ هذه نجمة لا يمكن أن نصادفها في يومياتنا، مع ذلك كانت قريبة من الجمهور والحشد إلى الحد الذي جعل كل الرجال "يفضلونهن شقراوات"، كرمى لشعرها. هذه كائن هش ورقيق، لكن هذه الهشاشة التي تفصح عنها مشيتها المتخلعة وحركة ردفيها الممتلئين، تثبت أنها تملك سلطة على الرجال والنساء على حد سواء لا معادل لها. سلطة ناجمة من واقع أن كل هذا الجمال والرقة والهشاشة في آن غير قابل للاستعمال على وجه محدد. ثمة الكثير في هذا الجسم مما يفيض عن حاجة الرجال والنساء. كثير ومثير وموح. ولا يمكن للناظرين إليها تجاهل هذه الوفرة.
كانت مارلين، في حياتها، وفي أفلامها، وفي الفيلم الذي يكرمها بدرجة أقل، أحد أسباب هذا العالم لاختبار الحيرة. هذه امرأة جميلة ومثيرة، لكن الجميلات كثيرات. فما الذي نستطيع أن نفعله معها من دون أن يكون شبيها بما نفعله مع نساء جميلات أخريات؟
هكذا، أوقعتهم مارلين وما زالت توقعنا في حيرة لا مثيل لها. ما الذي يمكن لنا أن نختبره مع تمثال فينوس إذا قرر فجأة أن يصبح من لحم ودم؟ هل يمكن لنا أن نحتفل بكل منحنياته؟ هل نستطيع أن نرفع من مستوى رغباتنا، كأن تصبح المائدة التي نضع عليها أطباقنا لتناول العشاء باعثة متعة أكثر مما هي ملبية حاجة؟ هل يمكن أن يصبح السرير وثيرًا إلى حد أننا سنشعر حين نستلقي بأننا متنا حقا لبضع ساعات؟ وهل يمكن للجسم البشري أن يصبح محققًا للمتعة لأنه موجود فقط، من دون حاجة للمسه أو استعماله؟
قد تكون هذه الأسئلة المجحفة هي التي رسمت مصير مارلين في حياتها وموتها. أصحاب السلطان كانوا يستطيعون استخدام جسمها المشع لأن سلطانهم غير قابل للمقاومة، فيما الجمهور الذي عشقها لم يكن يرى خلف الجلد الذي يغلف أحشاءها غير طبقات أخرى من الجلد المشع. وكان يحسب أنها تستطيع أن تتكاثر وحدها إلى ما لا نهاية. أما هي فكانت ابنة معنفة، وأم محبطة، وزوجة تائهة، ونجمة قابلة للاستغلال. كانت مارلين تعيش في غير زمنها. لكنها بمعنى ما صنعت لنا الزمن الذي ما زلنا نعيش فيه.