قبل أيام قليلة نشرت إحدى المواقع العربية على الإنترنت، مقالًا عمّا اعتبرتها أكلات يهودية منتشرة بين العرب. تناول المقال بعضًا من أشهر الأطعمة العربية، ونسَبَها لـ"المطبخ اليهودي" المزعوم. لم تكن تلك المنصة الأولى، ثمّة منصات ومواقع عربية أُخرى وقعت في نفس الخطأ الكارثي.
في اعتقادي تكمن كارثية الخطأ في الكسل عن البحث والتدقيق قبل تمرير أي معلومة، خاصة لو كانت معلومة بخطورة نسب الفلافل للمطبخ الإسرائيلي المزعوم، واعتماد مصادر في جملتها مُروّجة للأسطورة الإسرائيلية.
ينسب الاحتلال الإسرائيلي الفلافلَ وغيرها من الأطعمة العربية إلى المطبخ الإسرائيلي المزعوم، في سياق محاولة صناعة تراث وهوية بالسرقة
على مدار سنوات، تحوّلت الفلافل من مجرد أكلة شعبية منتشرة في الوسط العربي، إلى قضية أعتقد أنها شديدة الأهمية في سياق النضال العربي ضد المشروع الصهيوني الاستيطاني في المنطقة. تزعم إسرائيل وتروّج وتكتّف الجهود وتكثفها، لتنسب الفلافل وغيرها من الأطعمة، لتراثها المزعوم. يُعطي ذلك مباشرة، لكل ذي نظر، انطباعًا بأنها قضية مهمة، حتى ولو همشتها الخطابات التقليدية في نظرتها للقضية الفلسطينية.
اقرأ/ي أيضًا: "المطبخ الإسرائيلي" المليء بالكذب
بإيجاز، يسعى الإسرائيليون إلى بناء تراث وهوية لكيانهم الاستيطاني الذي لا يمتلك بنية مترابطة، ولا هويّة جامعة لبشر من مشارق الأرض ومغاربها بثقافات وهويات مختلفة، بعضها متنافر أصلًا. فكان من جملة النهب والسرقة الذي قام عليه هذا المشروع الاستيطاني، سرقة التراث والثقافة العربية، لدرجة محاولة تهويد الزي التراثي للمرأة الفلسطينية. وهكذا تبدأ السرقات الكبرى، من التفاصيل التي تبدو صغيرة أو هامشية. حتى أن السياسيين الإسرائيليين حريصون على التقاط الصور لهم وهم يتناولون الفلافل في إطار الترويج لهم خلال حملاتهم الانتخابية!
يُوضّح ذلك حجم ما يعنيه مشروع التهويد، فهو لا يتوقف عند المباني والآثار الحجرية، وإنما يتغلغل إلى الروح الثقافية للعرب. العبرية الحديثة ليست كافية لتوحيد عناصر كيان قائم على جمع الشتات الذي لا يُمثّل في ذاته وحدة عضوية تُؤسس لثقافة أو هويّة جامعة. وهي مسألة مصيرية للإسرائيليين لإثبات حقهم التاريخي المزعوم.
هذه مشكلة، وقضية جديرة بالنضال، ربما أكثر من غيرها، فمن القضايا المهمشة يتبلور الخطاب المتحرر. لكن في اعتقادي تكمن المشكلة الأكبر من تمرير ذلك عربيًا، خاصة من الذين يزعمون تبني صوت الحرية وقضايا الحق والعدل. وهذا ما تكرر في منصات المحتوى العربي، تحديدًا التي ظهرت في عقب الثورات العربية ويديرها أو يكتب فيها شباب ممن شاركوا في الانتفاضات العربية أو ناصروها، أو هكذا يقولون عن أنفسهم.
هذه المواقع والمنصات، ومع إعلانها تبنيها الدقة والموضوعية وخيارات الشعوب نحو التحرر، تميل بمرور الوقت نحو جنحة التجارة ومفاسدها فيما تقدمه للجمهور العربي، فتدخلت لعنة "الترافيك" وكثرة القراءات في نوعية ما يُقدّم للقارئ. لا يتوقف الأمر عند ذلك، فمن التفاهة قد تُصنع أشياء ذات قيمة بشكل ما، لكن اختلاط الكلام الفارغ بالكسل، يُنتج في النهاية ما يُمكن وصفه بالجريمة، كمقال يُشارك العربَ أساطير العدو باعتبارها مُسلّمة.
تجاوزت مفاهيم الدقة والموضوعية نقل المعلومة بردّها لمصدرها، إذ إن بعض المعارك الآن تدور حول المعلومات أصلًا
هذه حادثة جديرة بالتوقف عندها، كونها تعبيرًا جليًا عن أزمةٍ فيما تقدمه مواقع ومنصات المحتوى أو الصحافة الجديدة العربية، والتي تخطت أزمتها الكلام الفارغ إلى كوارث معلوماتية، لا تثري المحتوى العربي بالضرورة، وإنما تتفهه من جهة، ومن جهة أخرى تكرس لكونه محتوى تابعًا لكل ما يُقال ويتردد أجنبيًا.
اقرأ/ي أيضًا: "كوابيس السلطة الرابعة".. كيف تغيرت الصحافة العربية في 2017؟
بعض المواقع التي روّجت للأكذوبة القائلة بأن الفلافل أكلة إسرائيلية، اعتمدت في ذلك على مصادر غربية، وهي بذلك تُريد أن تقول إنّها تُوثّق لما تنشره وتحترم رد المعلومة إلى مصدرها. جميل، لكن الانسحاق أمام كل ما هو غير عربيٍّ ليس أمرًا صحيحًا في ذاته، ولا يعبّر عن الدقة بالضرورة، وإنما قد يكون في مرمى المثل المقتبس من القرآن: "كمثل الحمار يحمل أسفارًا".
تجاوزت مفاهيم الدقة والموضوعية نقل المعلومة بردّها لمصدرها، إذ إن بعض المعارك الآن تدور حول المعلومات أصلًا. ومن جهة أخرى لم تعد للمعلومة قيمتها الأوفى كما كان أحيانًا في السابق، ما لم تُموضع في سياق سرديةٍ تتبنى قضية معينة بأي طريقة. وربما لا يكون أكثر وضوحًا من قضية الفلافل. المعلومات في العديد من المصادر الغربية تُشير إلى أنها أكلة إسرائيلية، وتقول ذلك باعتبارها مسلمة لا تناقشها، فتضع المعلومة في سياقات مختلفة بعيدًا عن ذكرٍ أو إخبارٍ مجرّد لها، وذلك ببساطة لأنها تتعامل معها كمعلومة مسلم بها.
إذا اعتمدنا فقط على بعض "المصداقية" التي قد تحظى بها بعض هذه المصادر الصحفية، فسنمرر بسهولة -ربما لم يكن العدو ليتخيلها يومًا- أنّ الفلافل إسرائيلية فعلًا، وهو أمرٌ في سياق قضيتنا، مخالف تمامًا للسردية التي نتبناها، والتي تقول معلومة مغايرة وهي أنّ الفلافل عربية، أو على الأقل ليست إسرائيلية.
قبيل الغزو الأمريكي للعراق في 2003، دشّنت البروباغندا الغربية مدفوعة الأجر من ممولي الساسة في الكونغرس والبيت الأبيض وشارع دونينغ بلندن، حملة روجت لحيازة نظام صدام حسين لأسلحة دمار شامل، كمبرر معقول للمضي قدمًا في غزو العراق.
وقعت في براثن الحملة مصادر إعلامية يفترض أنها ذات مصداقية، من بينها على سبيل المثال صحيفة نيويورك تايمز، التي تصنف باعتبارها أكثر ميلًا نحو اليسار.
تلك المعلومة المكذوبة كما تبين لاحقًا، كانت سببًا رئيسًا في دفع الرأي العام الغربي إلى تبني خيار الحرب في بدايتها. وهي أيضًا مثالٌ على أن بعض المعارك تدور حول المعلومة، ففي الجهة الأخرى كانت هناك سردية تناهض الحرب للعديد من الاعتبارات، وكانت ساحة المعركة التساؤل حول المعلومة التي فرضت نفسها: هل يمتلك نظام صدام حسين أسلحة دمار شامل؟
في عرف الصحافة الجادة، قد تجعل صفة الكسل عن البحث والتدقيق، من صاحبها، صحفيًا سيئ السمعة
صحيح أنه ربما بعض الضغوط قد تُؤثر في تبني وسيلة إعلامية أيًا كانت، لمعلومة في سياق سردية ما. ولكن أيّ ضغط تعرضت له المنصات المواقع الإلكترونية العربية التي قررت بسهولة تمرير معلومات السردية الإسرائيلية؟ أعتقد أنه ضغط الكسل والتسليم للعناوين والمواضيع "المثيرة" للفوز في معركة الترافيك. لكن إقحام قضايا حساسة في معركة الترافيك هذه، هو من جديد من باب الكسل. هناك مساحات أخرى يُمكن أن يلعب فيها الترافيك لعبته، لكن غالبًا ليس من بينها الكسل عن التدقيق والتوثيق من معلومات تدور حولها معارك خاصة بقضايا مصيرية، كتهويد التراث العربي.
بالإضافة إلى أنّ الكسل هو في العرف المجتمعي من الصفات الذميمة، فهو أيضًا في عرف الصحافة الجادة، أو حتى التي تدعي الجدية، صفةٌ قد تجعل من صاحبها صحفيًا سيئ السمعة.
اقرأ/ي أيضًا: