صباح يشبه كل الصباحات الضاجة بالملل. استيقظت باكرًا أعدت الفطور، ونظفت المنزل وجلست في المطبخ ترتق بعض الثياب المهترئة وهي تستمع إلى ما يبثه الراديو: صوت الشحرورة صباح يبعث في نفسها البهجة في هذه الأيام التي تكاد تكرر نفسها بلا أي تعديل. تبهجها صباح لكنها تفضل حماسة أمينة فاخت، وتطربها تأوهاتها المنبعثة من الراديو فتنشط حواسها، وتجعل تهز رأسها بمتعة وسلطنة متناسية ديكور حياتها الممل. كان يمكن أن يكون صباحها باهتا خاليا من أي مفاجأة لولا اقتحام حمدي مطبخها بلا سابق إنذار. حمدي هو ابن جارتها التي تقطن في طرف الحي. رشحته لها أمه لمساعدة ابنتها في دروسها. لم تكن تحتاج إلى جهد كبير لتقتنع. أي جامعي مرحب به ليساعد الملعونة ابنتها على تجاوز البكالوريا بنجاح.
زار حمدي ابنتها مرتين في البيت. تنصتت على نقاشاتهما من خلف الباب، واطمأنت إلى جديته وعدم تجاوبه مع دلال ابنتها وغنجها ومحاولاتها تصيد المواضيع خارج إطار دروسها. في زيارته الثانية وفي طريق المغادرة توقف الولد أمامها متفاجئًا وفي عينه لمعة حادة أثارت ضحكها وسخريتها. نهرته بلطف: مخر عليك، سلم لي على أمك. وكاد وجهه ينفجر من الخجل. في اﻷيام التي تلت، صادفته في طريقها أكثر من مرة. في كل مرة كان يزداد جرأة وتشتد حدة نظرته الملحاحة. وفي كل مرة كانت ابتسامتها تتسع وتزداد نبرة صوتها ثقة وهي ترسل السلام إلى أمه. مع الوقت تحولت حياتها إلى لعبة مثيرة. أينما ذهبت بحثت عن حمدي. الذي كان يختار اﻷماكن اﻷكثر غرابة ليفاجئها فيها. وكانت تحب هذه اللعبة، إذ كثيرًا ما اكتشفت موقع اختبائه، لكنها تعمدت أن تتجاهله مستمتعة بالشرارة في عينيه التي تشعر بها تلسع ظهرها. ليست المرة الأولى التي يشتهيها فيها رجل. هي تعرف جيدًا تأثير جسدها الممتلئ كسفرجلة ناضجة عليهم وتعرف تأثير نظرتها الناعسة العسلية الواسعة، وصدى ضحكتها اللعوب في نفوس الرجال. الجميع يعرفها لعوبًا محبة للمغامرات. سمعتها هذه درت عليها مالًا وهدايا كثيرة. وكل نساء القرية كن يستعطفن نصائحها ويطمعن بخبرتها في استمالة الرجال. الفتيات يقصدنها لتوشم أجسادهن "بالحرقوص" في أماكن تختارها، ووفق أشكال تبتدعها. صار البعض يعتقد أن أوشامها تجلب المحبوب وتفك عقدة أصعب الرجال. لكنها ورغم كل القيل والقال الذي يدور حولها همسا وجهرا، لم يحدث أن خانت زوجها. كانت تخشى عقاب الله وترأف بالمغترب البعيد وتحاول تجنيبه الخيبة. لكن وفاءها لم يدفعها للتخلي عن مسلكها اللاهي المغناج. كانت تقتل بهذا اللهو مللًا مستوطنًا في القرية. كل حين تتلقف اﻷفواه قصة من قصصها، كما تتلقف الكلاب الجائعة فضلات الدجاج.
لعبتها مع حمدي دامت لأكثر من شهرين، كانت تخرج خلالهما كل يوم إلى السوق، وتتصيد الأسباب والمناسبات لزيارة الجارات. شهران تفننت خلالهما بخياطة الجلابيب الأكثر ملاءمة لإبراز مفاتنها المتداخلة. وتختار ألوانا غريبة ﻷغطية رأسها. صارت مرورها في النهج المؤدي إلى السوق يشبه مرور نجمة حقيقية، تستوقفها النساء بفضول، وتتابعها عيون الرجال بإلحاح، بينما تبحث هي عن اللمعة في عيون شاب أسمر وهزيل. لمعة حادة صنعت لأيامها المملة إيقاعًا خفيًا من الشوق الممتع وروت روحها باهتمام شبق. دامت اللعبة لشهرين، قبل أن ينقطع حمدي فجأة عن دروس ابنتها ويتغيب عن ملاحقتها في الخفاء. ويتحول الانتظار اللذيذ إلى تساؤل عصبي ومؤلم. انتهت اللعبة المثيرة ولم تعثر على أي أثر لحمدي، في الأثناء تحول الشوق الخفيف إلى حمى. حمى جعلت مزاجها سيئًا ويديها قاسيتين على أجساد البنات، وأوشامها مفزعة. حتى طبخها صار بلا طعم، بل وكادت أن تطرد زوجها خلال زيارته القصيرة عائدًا من المغترب. مرت عليها أيام صعبة قبل أن تستعيد نفسها، وتتعود نسق أيامها من جديد.
ذلك الصباح. كان يشبه صباحات عادية ﻷيام ضاجة بالملل. لولا دخول حمدي من باب مطبخها بلا استئذان. بدا وجهه مطفأ، كأنه شبح ميت، عيون بارزة تلمع فيها شرارة جنون وسط وجه معتم شديد الهزال. يرنو إليها بفم مفغور كأنه ممسوس. لم تكن عين حمدي البارزة تطارد ثنايا جسدها. كان أشبه بشبح يعكر صفو الصباح. حاولت أن تستميل عينيه بطبق من الفاكهة الصيفية، إلا أنه قاطعها شاكرًا وحاسمًا ولم تنجح في إيقاعه في فخها المحكم.
تسارعت دقات قلبها إلى حد أحست معه بأنه سيقفز من مكانه. لقد أدركت أنها خسرت اللمعة في عيون حمدي، وخسرت اللعبة التي كانت تقاوم بها ملل الأيام وبهتانها. أحست أنها تختبر أولى خيباتها، شعرت أنها بلغت المئة عام.
جلست صامتة تستمع إلى نبضها، وتنظر بإمعان إلى جسدها. أخذت تشعر بألم جرح غائر في مرفقها. وكأن قطعة من نفسها تفتتت وذابت. وكأن اللعبة ما عادت لعبة، وتحولت إلى شيء حقيقي جعل روحها تشيب فجأة. أصبح العالم حولها قاحلًا، كئيبًا، لا ضوء فيه ولا أمنيات. لا تعلم كيف اندلع هذا اللهيب في جوفها، ولا كيف فقدت دموعها ملوحتها. أيصبح البكاء فعلًا لا إراديًا. فكرت إن الوقت قادر على رتق كل الجروح. لكنها استدركت سريعًا، ثمة جروح لا يمكن رتقها أو الشفاء منها. وها هي تغرق في جرحها. تحترق، تهوي بلا رحمة من قمة مرتفعة. وقفت أمام المرآة تأملت عظامها المكسورة، وابتسمت: ها أنا أشيخ. والتقدم بالسن يشبه الموت، فلا يأتي بموعد مسبق. ولا أحد يدري أن كان مؤلمًا أم باعثًا على الراحة.