في مقابلة قصيرة بثّتها قناة الجزيرة مؤخرًا، قال الصحفي وائل الدحدوح حول أمنياته، على أعتاب العام الجديد، بأنّ أكثر أمنياته أولوية هو أن يتوقّف العدوان الإسرائيلي على غزة في القريب العاجل.
صحيحٌ أنّ أمنية الدحدوح السابقة هيَ أمنية ذات طابع شخصي، لكنّها تَصلح لتكون أمنية لها مواصفات العالمية، فهذه الأمنية تُمثّل أولوية كلّ إنسان حرّ، يَنتصر لإنسانيته ويرتقي بها ويجعلها منطلقًا للتعامل مع غيره من البشر، مهما كان موقعه ومكانه في هذا العالَم.
إنّ أمنية وقف العدوان على غزة التي تتمثّل في رأس الإنسان الحرّ وتشغله هي أمنية لها مواصفات الكلية التي تَحمل في داخلها أجزاءها الصغيرة، وتُشبه الوعد الكلي الذي يَحمل في داخله وعوده الجزئية الصغيرة.
يتمنى الإنسان الحرّ أن يتوقّف العدوان على غزة، ووقف العدوان يُشبه وعدًا كبيرًا يَحملُ وعوده الصغيرة داخله، فوقف العدوان يحملُ وعدًا أوّل بتوقّف شلال الدمّ النازف، وتوقّف عداد الشهداء عن العدّ، ووعدًا ثانيًا بألا يفقد طِفل غزي آخر عضوًا من جسده، ووعدًا ثالثًا بأن ينتهي إحساس الإنسان الغزي بالجوع والعطش، ووعدًا رابعًا بألا يُسمَع أنين الغزيين الأحياء من تحت الأنقاض، ووعدًا خامسًا بألا يَبقى فردًا غزيًا آخر وحيدًا بعد استشهاد كافة أفراد عائلته، ووعدًا سادسًا وسابعًا وثامنًا وتاسعًا إلى المالانهاية ربّما.
تتمثّل أمنية وقف العدوان على غزة في رأس الإنسان الحرّ، ويُعبّر عنها بألف طريقة وطريقة؛ بالكلام والكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي، بمقاطعة الشركات والمنتجات الداعمة للحرب واستمرار الإبادة
تتمثّل أمنية وقف العدوان على غزة في رأس الإنسان الحرّ، ويُعبّر عنها بألف طريقة وطريقة؛ بالكلام والكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي، بمقاطعة الشركات والمنتجات الداعمة للحرب واستمرار الإبادة، بالخروج إلى الشارع في أشكال حركات احتجاجية للمطالبة الصريحة بوقف العدوان، وعن شعور الانتماء المشترك إلى الإنسانية الذي تُجسّده هذه الأخيرة، يكتب عزمي بشارة في مقالة له بعنوان: "قضايا أخلاقية في أزمنة صعبة": "الشعب الفلسطيني يتعرض للظلم وقضيته عادلة. وهؤلاء الذين يتظاهرون في دول أوروبا وأمريكا، مطالِبين بوقف إطلاق النار، ربما تحرك بعضهم الأخلاق الكونية الناجمة عن شعور بالانتماء المشترك إلى هوية واحدة، لا قومية ولا دينية، بل إنسانية تجعلهم قادرين على تخيل أنفسهم في مكان الضحايا. وهذا أرقى أنواع الانتماء المشترك. فالإنسانيةُ بوصفها جماعة مرجعيةٌ كبرى يفترض أن تسود فيها القيم الكونية".
أمنية وقف العدوان على غزة، هي أمنية تتمثّل –بحسب تعبير بشارة- في رؤوس "أولئك الأفراد والتنظيمات الذين يحافظون على القيم الإنسانية"، فهؤلاء بحسبه يرون أنّ هذه القيم هي قيَم كونية "ليس لأنها إنسانية
في مضمونها فحسب، بل في سريانها أيضًا بوصفها عابرة للجماعات، وتنطبق على البشر عمومًا"، فهؤلاء جميعًا لا تمنعهم لون بشرة الغزي وجنسيته الفلسطينية وانتمائه إلى هوية وقومية عربية وإسلامية من رؤية حقيقة المقتلة والإبادة الجماعية التي يتعرّض لها، بأساليب القصف والتجويع وغيرها.
لعلّ أمنية وقف العدوان على غزة، هي أرقى أمنية تتمثّل في رأس إنسان، لأنّها تفتح له بوابات الوعي الإنساني على مصراعيها، وتجعله يَتطلّع إلى غيره من البشر من منطلقات صفتهم الإنسانية أولًا وأخيرًا، أو لنقل إنّها أمنية -بتعبير الفيلسوف الألماني كانط- تَجعل الإنسان يتعامل مع الإنسانية في شخصه وفي غيره على أنّها غاية، ولا يُعاملها أبدًا على أنّها مجرّد وسيلة.