يقول محمود درويش في مقطع من إحدى قصائده: "تضيقُ بنا الأرض. تحشرنا في الممرّ الأخير، فنخلعُ أعضائنا كي نمرّ وتعصرنا الأرض. يا ليتنا قمحها كي نموت ونحيا. ويا ليتها أمنا لترحمنا أمنا".
لعلّ درويش يَختزل في كلماته السابقة حال الفلسطينيين جميعًا، عندما تضيقُ بهم أرضهم بِفعل الاحتلال، فيُحاصرون فيها ويُقصفون، وتُمارَس عليهم الإبادة الجماعية بكافة أشكالها، فيتمنون عندما تصبِح –تلكَ الأرض- ممرهم الأخير إلى أماكن أخرى أكثر أمانًا، لو كانوا سنابل قمحٍ فيها تُحصَد وتُقتلع ثمّ تُبذر من جديد.
استذكرتُ كلمات درويش السابقة وأنا أستمع إلى تعقيب أحد النازحين من مخيم البريج من غزة، وكان يحكي ويُعبّر عن رغبته في العودة إلى منزله في المخيم حتى لو كانت حجارته مقصوفة ومدمّرة: "بدنا نبوس أرض البريج بدنا نبوس حيطانها، يا عمي مقصوفة مقصوفة بدي أحط خيمة وأنام".
فكّرتُ وأنا أستمع لكلماته بحقيقة أنّ هناك العديد من النازحين الغزيين الآخرين ممن قُصِفت بيوتهم في مناطق أخرى من غزة، قد عادوا إليها وأقاموا على أنقاضها، أو نصبوا الخيام بالقرب منها.
قادتني الحقيقة السابقة نحو التفكير في حجارة هذه البيوت المهدومة، في ذاكرتها وذكرياتها، أو فيما يُثيره رؤيتها عند العائدين إليها بَعد هدمها وقصفها.
إذا كانت حجارة فلسطين تتقدّم باعتبارها فواعل تاريخية تُفيد الباحثين في أغراض البحث والدراسة، فربّما أمكن القول بأنّه حتى الحجر المهدوم والمدمّر في أرضها وبيوتها يُعتبَر فاعل تاريخي حقيقي
قالت لي صديقة ذات مرة: إنّ البيوت أكثر من مجرّد حجارة، وكانت تقصد من قولها إنّ البيوت في تعريفها تتجاوز طبيعتها المادية كشيء مكوّن من حجارة وطين، وتقود إلى فكرة جوهرية أخرى تُدلّل عليها وهي الدفء والعائلة والاحتضان والأجواء الأسرية والحميمية.
لكنّ لعلّ حجارة البيوت في غزة وفلسطين تَتعالى في تعريفها على طبيعتها المادية الطينية، لتغدو أكثر من ذلك بكثير، هناك فكرة أوردها الباحث بشارة دوماني في محاضرته حول: "العمارة بالحجر الجيري والرملي والطوب: نحو تاريخٍ حديث للفلسطينيين"، وذكَرَ فيها بأنّ الحجر في فلسطين يَصلُح باعتباره فاعلًا تاريخيًا، وأكّد على أنّه يُمكن اعتبار الحجر مصدرًا لكتابة التاريخ الحديث للفلسطينيين، يتحدى سرديّة المكان والزمان والفاعلية الإنسانية الموجودة في معظم الأعمال التاريخية التقليدية، التي عادةً ما تصور الفلسطينيين على أنهم ضحايا أو مقاومون لقوى خارجة عن سيطرتهم.
يُضيف الباحث في محاضرته السابقة بأنّ مشروع كتابه الجديد، قائم على فكرة التأريخ للشعب الفلسطيني من خلال دراسة تاريخ الحجارة وصناعة الحجر، وهوَ يُقرّ هنا بأنّ دراسة الحجارة في فلسطين قد تكون كفيلة بإيصاله إلى نتائج وحقائق أخرى عن الفلسطينيين والشعب الفلسطيني.
وإذا كانت حجارة فلسطين تتقدّم باعتبارها فواعل تاريخية تُفيد الباحثين في أغراض البحث والدراسة، فربّما أمكن القول بأنّه حتى الحجر المهدوم والمدمّر في أرضها وبيوتها يُعتبَر فاعل تاريخي حقيقي، لأنّه يَحضر أمام أصحابه كخزان ذاكريْ، ويُفعّل عندهم عند مشاهدته قيَم التذكّر، ويدفعهم نحو طقوس الاستذكار التي يتذكرون فيها البيوت كجوهر عائلي دافئ، والأرض كأمّ رحيم وحنون.
كثيرًا ما أعجبني عنوان ديوان شِعري لإيمان مرسال تُعلِن عبره تمرّدها على فكرة العائلة أو الوصاية الأبوية، وتقول فيه أنّها تريدُ أن تتخلى عن فكرة البيوت "حتى أتخلى عن فكرة البيوت"، لكنّي اليوم كفلسطينية، أعيدُ تأمّل العنوان وأستحضر ما قاله النازح الغزي، وأقول في نفسي: علينا كفلسطينيين جميعًا ألا نتخلى عن فكرة البيوت.