يخطرُ على بالي دائمًا وأنا أفكّر بالأحلام شارة المسلسل السوري "أحلام كبيرة"، أستذكر مقطع الشارة الذي يقول: "نفذت أمانينا، نفذت مرامينا، أحلامنا نفذت، عصارة روحنا نفذت"، أحدّث نفسي بأنّ البشر دائمًا ما يولدون بأحلامٍ كبيرة، ثمّ ما تلبث أحلامهم أن تتناقص شيئًا فشيئًا حسب أمكنتهم وظروفهم، وصولًا إلى مرحلة النفاذ الكلّي أو النهائي.
أستذكر مقطع محمود درويش الذي يقرّ فيه بأنّ الأمكنة كفيلة بأن تَجعل أحلام الإنسان تتبدّل وتتغيّر، يقول درويش في مقطعه ذاك: "المكان يُبدّل أحلامنا"، أفكّر بأنّ الأمكنة ليست هي المحدّدات الوحيدة التي تَفرض تبدلات وتغيرات معينة على أحلام الإنسان، فالأزمنة كذلك من شأنها أن تُغيّر من تلكَ الأحلام، فهي من شأنّها أن تحدّ من تلكَ الأحلام وتُقلّصها، وتهبط بها من سرديتها كأحلام كبيرة إلى سردية أخرى لا تكون فيها سوى أحلام ناقصة ومبتورة.
إنّ الأزمنة قد تكون في بعض الأحيان بمثابة حالة حصار تُفرَض على الأحلام، وتَفرِض عليها وجودها في سرديتها الثانية وفي سيرورة لا مكان فيها سوى لصفات النقص والتقزّم والبتْر، ولا أزمنة تُقزّم الأحلام وتبترها كأزمنة الحرب، ففي هذه الأزمنة كلّ شيءٍ يضيق ويصغر ويضمحل ويتقزّم حتى الأحلام.
في أزمنة الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، تقزّمت أحلام أناس غزة، نقصَت تلكَ الأحلام واضمحلت حتى وصَلَت إلى حدود التلاشي والنفاذ، في أصوات أناس غزة حول الذي يَحلمون به الآن نَسمع:
-"أحلمُ بأن أموت وجسدي قطعة واحدة لا أشلاءً متناثرة".
-"أحلمُ بأنْ يأخذني الموت –إذا جاءَ- وعائلتي دفعة واحدة، فنموت كلّنا معًا".
-"أحلمُ بشفتيْ تُلامس حبيبتي، وهيَ ليست أكثر من قارورة ماءٍ حلوة ونظيفة".
-"أحلمُ بَعد أن فقدتُ بيتي وعائلتي بأن يكون كلّ ما جرى لي حُلمًا".
الآباء والأمهات في غزة يكتبون أسماء أطفالهم على أيديهم وأرجلهم، حتى يسهل التعرّف عليهم إذا ما نزل الموت فوق رؤوسهم فجأة، وحتى يكون لهم في موتهم أسماء معروفة تُكتَب على شاهدة قبورهم
في أصواتهم هذه لا مكان لأحلام طبيعية واعتيادية، فلا وجود سوى لأحلام فرضها ظرف الحصار والتجويع وفرضتها الإبادة الجماعية التي تُحيط بهم من كلّ الجهات.
أسألُ نفسي: ما الذي يُمكن قوله أمام هذه الأصوات، وقد صارت أقصى أحلام الناس في غزة أن يموت الواحد منهم وهو قطعة واحدة لا أشلاء، أو أن يُكرمه الموت بأن ينزل فوق رأسه ويحصده مع عائلته دفعة واحدة، فلا يقاسي فقدهم، ولا يقاسون فقده؟
ما الذي يُمكن قوله أمام الآلاف من المشاهد الأخرى التي تأتي لتدلّل على أنّ أحلام أناس غزة قد تضاءلت وتناقصت إلى الحدّ الذي لم تَعد فيه موجودة في أدنى درجة من هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية، فلم تَعد الأحاديث بينهم تدور حول المأكل والمشرب والمكان الآمن، بل أصبحت حولَ شكلِ موتٍ لائق، يجعلهم يخرجون من هذه الحياة بأجساد كاملة، أو حولَ أشكال موتٍ جماعيٍ يأخذهم مع أحبتهم سويًا، بحيث يكونون لا فاقدين ولا مفقودين؟
الآباء والأمهات في غزة يكتبون أسماء أطفالهم على أيديهم وأرجلهم، حتى يسهل التعرّف عليهم إذا ما نزل الموت فوق رؤوسهم فجأة، وحتى يكون لهم في موتهم أسماء معروفة تُكتَب على شاهدة قبورهم، فلا يُدفنون في المقابر الجماعية للأشخاص مجهولي الهوية، وكأنّ أحلام هؤلاء الآباء والأمهات قد تقزّمت وتقلّصت، فلم تعد تتطلّع إلى مستقبل أطفالهم سوى في صفتهم كأطفال موتى، يجب عليهم أن يوجدوا في المقابر بأسماء وكنيات معروفة لا مجهولة!
وسواء في غزة أو في أي مكان في فلسطين، فمنذ أزمنة النكبة، ونحنُ كفلسطينيين نوجّه وجوهنا نحو بلادنا المحتلّة ونسأل عن مدى شرعية الأحلام: "اسألي أمي يا منادي بعدا ممنوعة الأحلام؟"، نسألُ سؤالنا ونحنُ نعرفُ بأنّ مشهَد إبادتنا الجماعية الأولى تكرّر وما زال يتكرّر، وأنّ الأحلام في أزمنة الإبادة، وإن كانت لا تُمنَع إلا أنّها تتقلّص وتتقزّم وتتلاشى إلى حدّ النفاذ.