مع بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، خرجَ إلينا شاعرٌ فلسطينيٌ معروف، ببضع فيديوهات مليئة بالخطابات الإنشائية والبلاغية التي يُخاطب فيها الفلسطينيين عمومًا، وأهل غزة خصوصًا، داعيًا إياهم إلى الالتفات إلى المعركة التي تحدث الآن على أرضهم والنظر إليها باعتبارها بداية معركة التحرير الكبرى، ومشددًا على أهل غزة بضرورة الصمود والثبات.
أكثر من مَقطع تابعته منذ بداية الحرب لهذا الشاعر، ولم أعرف حقًا من أينَ يجيء بكلّ هذه الثقة في خطاباته حتى يقرأ مشهد الإبادة الجماعية، التي تحدث في غزة، على أنّها معركة التحرير الكبرى المنتظرة لكامل فلسطين.
يخطر على بالي وأنا أتابع هذا الشاعر، وغيره من الأصوات التي تأتي من خارج غزة وتدعو أهلها إلى المزيد والمزيد من الصمود، بأنّ هؤلاء جميعًا ينتمون إلى مجتَمع يُمكن تسميته بـ"مجتمع الفرجة"، إذ يتطلّعون إلى مشاهِد القتل والإبادة والتجويع في غزة كمن يُشاهدون فيلمَ أكشن هم خارجه، حيث يجلسون على مقاعد المتفرجين، يُطلقون هتافات التشجيع والتهليل. هم خارج المجزرة تمامًا، لا طائرة تقصفُ فوقَ رؤوسهم، ولا أعزاء يُقتلون لهم، ولا دماء وخراب يُحيط بهم.
الفكرة التي أودّ قولها هنا بأنّه لا يحقّ لأحد ممن هم خارج غزة أن يُملي على أهلها مأثرة صمودهم، وعليهم أن يعرفوا بأنّ الناس في غزة بشر من لحم ودمّ، لهم طاقة صبر وصمود معين، ويحقّ للواحد منهم عند نفاذ طاقة الصبر داخله أن يخرج ويُطالب العالَم -الذي تحوّل جميعه إلى مجتمع فرجة- بأن يُوقف مجازر الإبادة الجماعية التي حدثت وتحدث حوله منذ بداية الحرب.
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، وعقلية الإبادة والتهجير الإسرائيلية تَعمَل على تحويلها إلى بيئة طاردة وغير صالحة للحياة الآدمية، إذ تطيح الطائرات بكل شيء، البشر والحجر والشجر
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، وعقلية الإبادة والتهجير الإسرائيلية تَعمَل على تحويلها إلى بيئة طاردة وغير صالحة للحياة الآدمية، تُركّز الطائرات الإسرائيلية ضرباتها في الشمال، فتطالُ كل شيء، البشر والحجر والشجر، تتقدّم دبابات الاحتلال وتتوغّل بريًا فتفصل سكان الشمال عن جنوبه، وتَمنَع وصول الماء والمساعدات الإنسانية إليهم، تَقصف الطائرات مستشفيات القطاع بما فيها من طواقم ومرضى وجرحى ونازحين، وترتكب مجازر لا تُعدّ ولا تُحصى.
ورغمَ كلّ ما يَحدث يَصمِد أهل غزة، ويثبتُ أهل شمالها، فيَخرجُ منهم صحافي شُجاع ليقولَ للاحتلال المجرم –الذي قتَل جماعة من أهله- وللمجتمع المتفرّج عليه "معلش"، وتَخرج الجموع منهم من بين الركام والخراب وجرائم الإبادة من حولهم ليؤكدوا على رفضهم لمخططات تهجيرهم من أرضهم ويصرخون بأعلى أصواتهم "مش متزحزحين" و"مش طالعين".
ليسَ من حقّ أحد أن يُملي على أهل غزة مأثرة صمودهم، لأنّهم صامدون وباقون، ولا خيار لهم إلا الصمود والبقاء، أما نحنُ ممن هم خارج غزة، وممن ينتمون إلى مجتمع الفرجة، فلا يحقّ لنا أن نُطالبهم بشيء، ولا يجب علينا أن نعتاد مشهد الإبادة الذي يحدث، ويا ليتنا نَفْهم صمودهم على حقيقته، ونختار أن نتناثر حولهم في صمتٍ يُكبر صمودهم ويَفهمه، ويُنصتُ لما يقولونه، وما لا يقولونه، او كما دعانا محمود درويش في قوله: "يا أيّها المتفرّجون! تناثروا في الصمت".