تعدّ "قصص كوليما" للروائي فارلام شالاموف واحدة من كلاسيكيات الأدب الروسي، والتي وثّق خلالها تجربته التي امتدّت 15 عامًا في "الغولاغ"؛ معسكرات الأعمال الشاقة للاتحاد السوفييتيّ تحت حكم ستالين التي قُدّر عدد الوفيات فيها بأكثر من 120 ألف سجين. ولد شالاموف عام 1907 واعتُقل عام 1929 أثناء دراسته في جامعة موسكو، لمحاولته نشر "وصايا لينين". اعتُقل لاحقًا عام 1937 وحُكم عليه بخمس سنوات في منطقة كوليما شمال شرق سيبيريا، ومُدد حكمه لاحقًا.
"قصص كوليما" لفارلام شالاموف من كلاسيكيات الأدب الروسي، حيث وثّق فيها تجربته التي امتدّت 15 عامًا في معسكرات الأعمال الشاقة السوفييتيّة
بدأ شالاموف في كتابة قصص كوليما عام 1954 بعد إطلاق سراحه، واستمرّ في كتابتها حتى عام 1973. لم تنشر هذه القصص في الاتحاد السوفييتي إلا بعد وفاته عام 1982.
اقرأ/ي أيضًا: سيرغين يسينين.. ليلة انتحار الشعر
عمد شالاموف إلى سرد قصصه بأسلوب يحاكي أسلوب تشيخوف، حيث تناولت القصص حياة السجناء – السياسيين وغيرهم- بموضوعية تترك للقارئ حريّة تفسيرها.
ادّعى شالاموف أنه لم يتعلّم شيئًا في كوليما سوى "كيفية دفع عربة ممتلئة"، كناية عن الفترة التي قضاها في مناجم الذهب. لكنّه سرد في إحدى كتاباته المجتزأة (مؤرخة عام 1961) 45 درسًا رآها وفهمها في تلك المعسكرات.
هنا ترجمة لإحدى تلك القصص، بطلها سجين عاديّ استطاع بدهائه هزيمة دولة بأكملها في معركة هروبٍ خاضها وانتصر بها، إلى أن أتى موعد نهايتها التي ترك شالاموف للقارئ الحكم عليها.
هنا، مقياس القيم معكوسٌ تمامًا. وأيّ مفهوم إنسانيّ، حتى مع احتفاظه بتهجئته وأصوات أحرفه، أصبح يعني شيئًا مختلفًا، معنىً جديد لا يملك له سكّان المدن أيّ تسمية. هنا، توجد تدابير مختلفة، وعادات وأزياء محددة، وأيّ إحساسٍ أو معنى لأي كلمة كان معدّلًا.
مع كلّ حدثٍ أو شعورٍ جديد لا يمكن التعبير عنه بكلمات البشر المعتادة، تولد كلمةٌ جديدةٌ مستعارة من معجم المجرمين المحترفين الذين يشرّعون الذوق العام في أقصى الشمال البعيد.
هذه الاستعارات المجازية للمعنى، تترك أثرها ليس فقط على مفاهيم مثل الحب والشرف والعمل، والرذيلة والجريمة، بل تحوّر أيضًا كلماتٍ أخرى تكاد تكون حكرًا فقط لهذا العالم الذي يحوي جذورها وأصلها، كلمات مثل: "هروب".
في مقتبل شبابي، قرأت عن هروب كروبوتكين من قلعة "بتروبافلوفسك": سيارة أجرة سريعة تمركزت قبالة بوابة السجن، وامرأة متخفية في عربة خفيفة تحمل مسدّسًا، محاولةً عدّ الخطوات لبوابة الحرس، وهروب السجين وزخّات الرصاص تطارده، وصوت قرقعة حوافر الحصان فوق الحصى... كان ذلك بلا شكّ هروبًا كلاسيكيًا أصيلًا.
لاحقًا، قرأت ما رواه بعض المنفيين عن هروب آخر، وأصبت بخيبة أمل مريرة. لم يكن هناك تخفٍّ أو تنكّر، ولا حتى مطاردة: ركوب مزلجة تجّرها الأحصنة شتاءً –كما في رواية "ابنة الضابط" لبوشكين- ثم الوصول إلى محطة قطارٍ وشراء تذكرة للسفر. لم أفهم لماذا سمّي ذلك هروبًا.
هذا النوع من الهروب يصنّف على أنّه "غياب طوعيّ عن مكان الإقامة"، وبوجهة نظري، صيغة كهذه هي تعريفٌ أكثر دقّة لما حدث من كلمة "هروب" الرومانسية.
حتى محاولة هروب الاشتراكيّ الثوريّ "زينزينوف" من "بروفيدانس باي"، عندما اتجه يختٌ أمريكيّ إلى القارب الذي كان يصطاد به وأخذه كلاجئٍ على متنه، لا تبدو كأنّها محاولة هروبٍ حقيقيّ، ليس مثل هروب "كروبتوكين".
كانت هناك محاولات هرب عديدة من كوليما، ولم تنجح أيّ منها. السبب يعود للطبيعة الغريبة للمنطقة القطبية القاسية، حيث قرّرت حكومة القيصر عدم توطين السجناء في جزيرة "ساخلين" بهدف استعمار وسكن المنطقة. المدينة كانت تبعد آلاف الكيلومترات، والمسافة إلى أقرب مكان مأهول كانت ألف كيلومترٍ من الغابات الموحشة.
يمكن لك أن تفهم سبب عدم حدوث أي محاولات هربٍ في الشتاء: أن تجد مكانًا بسقفٍ وفرنٍ من الصفيح المعدني لتمضي فيه شتاءك هو أقصى حلمٍ لكلّ سجين، وليس فقط للسجناء.
السجن يصبح كريهًا جدًا في الربيع، لا يطاق، وهذه حقيقة عالميّة. هنا، وبعيدًا عن العامل الجويّ الذي له تأثير حتميّ على مشاعر الرجال، يوجد أيضًا الاحتمال الذي وُلد من رحم منطق الفكر البارد: السفر في الغابة السبخة ممكن فقط في فصل الصيف، حيث يمكنك أكل العشب والفطر وجذور النبات إذا نفد طعامك، كما يمكن لرجلٍ متمرّس أن يتجنّب برد الليل بنومه على الحجارة، على جانبه لا على ظهره.
من المحال الهرب من كوليما، أيًّا كان الذي اختار هذه البقعة الجغرافية لمعسكرات السجن كان عبقريًا. ومع ذلك، قوّة الوهم وسطوة الخيال -التي يدفع الناس ثمنها بالحبس الانفراديّ والضرب والتجويع والموت غالبًا- فعّالة هنا كأيّ مكانٍ آخر في أيّ وقت.
محاولات هربٍ عديدة حدثت، ففي اللحظة التي تلمع فيها براعم الشجر كالزمرّد، يبدأ الهاربون بالتحرّك. دائمًا ما يكون الهاربون من المبتدئين، فقلوبهم ما تزال تحمل في حجراتها بعض العزيمة والإرادة، ولم تتشرب بعد ظروف وعادات الشمال البعيد الذي لا يشبه بأيّ شكل عالم المدينة الذي عرفوه، حتى اليوم.
يشعر المبتدئون والمستجدّون هنا بالإهانة في أعماق نفوسهم مما يرونه من ضربٍ وتعذيبٍ وفسادٍ بشريّ، فيأخذون على عاتقهم الهرب. بعضهم يؤدي ذلك أفضل من الآخر، لكنّ الأمر ينتهي بهم جميعًا على نفس الشاكلة.
موارد الحرّاس الضخمة والقوات الخاصة وآلاف الكلاب المجتمعة مع فرق الجيش المستظلة تحت اسم "أفواج كوليما"، أكثر من كافية للقبض على جميع الهاربين المحتملين.
لكن، أليس من الأبسط تركيز جهود تلك القوّات على الحراسة عوضًا عن إلقاء القبض على الهاربين؟ لاعتبارات اقتصادية، فإن تكلفة "صائدي الجماجم" أقل عبئًا على خزينة الدولة من رصد ميزانية ضخمة لتطوير نظام حراسة السجون.
من الصعب جدًا إيقاف محاولة الهروب الفعلية، حتى مع وجود شبكة المخبرين من السجناء الذين يكافؤهم الرؤساء بالسجائر وعلب الحساء، فالزوايا المظلمة كثيرة هنا، وتوقّع من سيحاول الهرب من المستحيلات. مقولة "السجين يفكّر في القضبان أكثر من تفكير السجان بمفاتيحه" صحيحة هنا.
من سيحاول الهرب إذًا؟ رجال العصابات لا يمتلكون القوة ولا حتى الرغبة في الهرب، فبعد تقييم تبعات الهروب ومنافعه المحتملة، اتفق عالم الإجرام بكلّيته على عدم أخذ تلك المخاطرة. من غير المعقول أبدًا أن يحاول السجناء غير السياسيين الهرب، فهرب أولئك السياسيون دائمًا ما يكون انعكاسًا لحضور الفكر وقوّة الإرادة، تمامًا كالإضراب عن الطعام، عليك أن تعرف جيدًا قبل هروبك لماذا ستهرب، وإلى أين. أمّا مغتصبو الأطفال ومختلسو أموال الدولة، فمدّة حكمهم ليست بالطويلة، وكانوا يتمتّعون بشتى ألوان الامتيازات، وسلّموا أنفسهم تمامًا لعناية السلطات.
كلّ ما سبق يجعل من محاولة هرب بافيل ميخائيلوفتش كريفوشي أكثر روعةً وإبهارًا.
وُلد كريفوشي عام 1900، كان رجلًا عنيدًا قصير القامة بعنقٍ قرمزيّ ثخين وصحة ممتازة. وبجبهةٍ مكوّرةٍ ورأسٍ أصلع تتقدمه نظارات بعدساتٍ دائرية بلا إطار، كان يفرض ذاته بحضورٍ ملفت، ودماثة خلقه كان لها أثرها على الرؤساء، ما جعل حياته أسهل في المعسكرات.
بالإضافة لكونه مهندسًا كيميائيًا، فقد كان يتقن عدّة لغاتٍ أجنبية بطلاقة، كان قارئًا نهمًا ذا معرفةٍ واسعة بالفنّ والنحت، وامتلك مجموعة غنيّة من التحف.
حطّ كريفوشي من شأن السياسيين على اختلاف انتماءاتهم، وكان ذكاؤه ودهاؤه في شبابه سببًا في إثارة اندفاعه للحياة كما فهمها، وسعة اطلاعه وثقافته شرّعت له أبواب فرصٍ ضخمة.
رغبة كريفوشي بالظهور أكثر رقيًّا وتحضرًا هي ما دفعته لتعلّم كل ما يحيط بالفنون، حتى يُصنّف مع أصحاب الذوق الرفيع من الخبراء، ويتجنّب إهانة ذاته بافتتانه بالأشخاص، رجالًا كانوا أو نساءً.
الفن بحدّ ذاته لم يُثرِ اهتمامه إطلاقًا، لكنه اعتبر نفسه مُلزَمًا بحيازة الرأي ووجهة النظر، حتى عن ساحة اللوفر. الأمر ذاته كان مع الأدب الذي لم يعنِ له شيئًا هو الآخر، لدرجة أنّه يمكنه إمضاء دهرٍ بأكمله في قراءة صفحة واحدة من رواية ما قبل نومه، فمطالعته الإنجليزية والفرنسية كانت غالبًا لتقوية لغته ليس إلا.
أمّا الموسيقى، فقد كان كريفوشي جاهلًا تمامًا بها، كانت أذنه صدئة وأبسط فهم للموسيقى يعجزه. لكنه أدرك منذ زمنٍ بعيد أن افتقاره لأذنٍ موسيقية يمكن أن يحطّ من قدره، فبذل وقتًا لا بأس به في سماع الألحان، متحلّيًا بالصبر الكافي.
وبصفته تائهًا في أرض الفنون بأشكالها، وجد كريفوشي ذاته في جمع التحف والمقتنيات، أفنى كلّ طاقته في ذلك، فقد كان أمرًا مربحًا وممتعًا له وأدخله في دوائر اجتماعية لم يعهدها.
ما كان يتقاضاه كمهندسٍ- حتى مع الحوافز- لم يكن يشبع عطش الحياة التي اختارها لنفسه، فكان بحاجةٍ لوسائلَ أخرى، وسائل تمتلكها الدولة. يمكننا وصف رجل كهذا بما نشاء، لكننا لن نسلخ عنه صفتي التصميم والإرادة.
حُكم على كريفوشي بالإعدام، وخفف الحكم لاحقًا إلى عشر سنوات. هذا يعني أن اختلاسه يقدّر بالملايين. حُجز على ممتلكاته وعُرضت في المزادات، لكنّه بالطبع توقّع أن يحصل كل ذلك، وتمكّن من إخفاء بعض مئات الآلاف في مكانٍ ما.
المخاطرة إذًا، كما رآها كريفوشي، كانت ضئيلة بمزايا جمّة، فبصفته سجينًا غير سياسيّ فإنه سيقضي حكمه "كصديقٍ للشعب"، وسيُطلق سراحه بعد انقضاء نصف المدة على أساس أيام العمل أو العفو، ويمكنه بعدها العيش بالأموال التي خبّأها.
لكنّ الرياح جرت بعكس ما خطط له، إذ لم يلبث كريفوشي طويلًا في سجن المدينة، فقد تم نقله –كسجين طويل الأمد- إلى كوليما، الأمر الذي زاد من تعقيد خططه للخلاص القريب.
بعد نقله بمدّة وجيزة، وباعتماده على طبيعة جرمه وعلى ذوقه وأخلاقه، عُيّن كمهندسٍ مختصّ في المختبر الكيميائي الخاص لمقاطعة أركاغالا، ولم يقضِ حتى يومًا واحدًا في منجم الأشغال الشاقة. كان منجم أركاغالا للفحم الحجري يُعدّ مركزًا ونقطة تجمّعٍ لمنقّبي الذهب، وكان مصدر الوقود الجديد للمنطقة بأكملها.
كريفوشي عرف جيّدًا أن طُرق فرق البحث الجيولوجية ستمتدّ حول محيط أركاغالا حتى تصل إلى مدينة ياكوتسك، وسيلتحق بتلك الفرق نجّارون وعمّال مناجم وحرس. كان عليه أن يتصرّف بسرعة.
بعد مرور عدة أشهر، جاءت زوجة كريفوشي لزيارته من مكانٍ بعيد. هي بالطبع لم تأت لرؤيته وحسب، وإنما تبعت خطى زوجها مكررة بذلك أفعال زوجات السجناء البطولية والمخلصة.
تحكم الزوجات اللاتي يتبعن أزواجهنّ على أنفسهنّ بالبرد الشديد وشتّى أنواع المعاناة المترتبة على لحاقهنّ بهم، فالسجناء يُرحّلون باستمرار. يعني ذلك ترك الزوجة مكان عملها الذي ذاقت الأمرّين لحيازته، ثمّ الرحيل إلى أماكن تعرّض أي امرأةٍ مسافرة خلالها إلى أهوال السرقة والترهيب والاغتصاب.
وبعيدًا عن كل ذلك، على أولئك "الشهيدات" توقّع شتى أنواع المضايقات من الرؤساء، من أعلى رأس الهرم نزولًا إلى حرس المرافقة الذين ذاقوا حياة كوليما سابقًا.
وبينما تُعطى السجينات الأوامر بأن "اخلعي ملابسك وانحني أرضًا" -دون أدنى تمهيدٍ من كتب بوشكين وشكسبير أو شيء من هذا القبيل- ثمّ تُرمى مصابةً بالسفلس، كانت زوجات السجناء يُعاملن بفجورٍ أكبر بكثير. هنا، يخاطر الرجل بخسارة رفيق أو رئيسٍ إذا اغتصب سجينة ما، أمّا "ممارسة الحب" مع زوجات السجناء الأحرار قانونًا، لا يسجّل كجريمة أو فعل فاضحٍ في أيّ مكانٍ داخل اللوائح.
الأمر المهم، هو أن رحلة الزوجة الطويلة لآلاف الكيلومترات اتّضح أنها مضيعة للوقت والجهد. فالمرأة المسكينة لا يسمح لها برؤية زوجها، وأيّ وعودٍ بذلك كانت تُصيّر سلاحًا بيد الرؤساء الراغبين بالتودد إليها.
كما يمكن لك أن تتوقع الآن، فإن زوجة كريفوشي، أنجلينا غريغورييفنا، لم تستطع العثور على عملٍ في أركاغالا، وبعد قضاء مدّة وجيزة فيها غادرت إلى "العاصمة المحلية"، مدينة ماغادان.
تمكّنت أنجلينا من العثور على وظيفة كمحاسبةٍ رغم انعدام مؤهلاتها، فقد كانت ربة منزل طيلة شبابها، واستطاعت بذلك تحصيل مكانٍ للعيش واستقرّت في ماغادان، حيث الحياة كانت أقلّ قماءةً وامتهانًا من أركاغالا وسط الغابة السبخة.
من أركاغالا وعبر قنوات اتصالٍ سرية تصل إلى ماغادان، حلّقت رسالة مشفّرة باتجاه مكتب قسم التحقيقات الجنائيّ حملت في محتواها الجملة الآتية: "السجين بافيل ميخائيلوفتش كريفوشي، المولود سنة 1900، والمدان بموجب المادة 168 بحكم عشر سنوات، رقم ملفّه.... قد هرب".
ظنوا أنّ زوجته خبأته في ماغادان، ولم يحصلوا على أيّة معلومة منها بعد اعتقالها: "نعم، كنت في كوليما، ورأيته، ثم رحلت، والآن أقيم في ماغادان."
عمليّات المراقبة والتحرّي كلّها لم تسفر عن أدنى شيء، حتى تشديد التفتيش على السفن والمعابر الحدودية كان هباءً. لا يوجد أيّ أثر لزوج أنجلينا.
لم يهرب كريوشي باتجاه البحر، بل في الاتجاه المعاكس تمامًا إلى مدينة ياكوتسك. فرّ من كوليما حاملًا معه رداءً ومطرقة جيولوجيٍّ وبعض الأحجار "كعيّنات"، إضافة إلى حزم أعواد كبريتٍ وبعض المال، فقط.
كان يمشي على مهل دون هرعٍ أو استعجال، لم يحد عن الطرق الرئيسية ومعسكرات العمال ولم يقترب أيضًا من الغابات، وقضى كلّ ليلة تحت سقفٍ خشبيّ في مكان ما. وفي أوّل موقع استقرّ به على الطريق، استأجر كريفوشي له بعض العمّال للحفر. باختصار، كان يقوم بكلّ الأعمال التي يفعلها أيّ جيولوجيٍّ حقيقيّ.
كانت أركاغالا، حيث قضى قرابة عامٍ قبل هربه، آخر محطة للعديد من البعثات الجيولوجية للمنطقة، كان قد أمضى وقته هناك دارسًا بعناية أساسيات المهنة وما يترافق معها من مظاهر. ذقنه المحلوقة يوميًا ونظاراته وأظافره المقلّمة بعناية، كلّها مظاهر بعثت ثقة مطلقةً في نفس كلّ من رآه.
لم يكن كريفوشي على عجلة من أمره مطلقًا، كان يملأ دفاتره برموزٍ غامضة تشبه إلى حد ما تلك التي قد تجدها في ملاحظات الجيولوجيين، حتى أنه كان يعود أحيانًا في عكس طريقه حيث كان قبل مدّة أو يغيّر خط سيره تمامًا من أجل أن تبدو رحلته حقيقية، وليغطي آثاره بحذر. أعصاب كريفوشي كانت أصلب من الفولاذ، ولم يكفّ أبدًا عن الترحيب والابتسام في وجه كلّ من رأى في طريقه.
بعد شهر تقريبًا، اقترب من مقصده، مدينة ياكوتسك، برفقة رجلين عُيّنا من قبل نقطة تجمّع الأعمال الحكومية الخاصة حتى يحملا له "عيّناته". فور وصولهم، ترك كريفوشي أحجاره في مكتب تخزين بضائع السفن وانطلق إلى مديرية المنطقة الجيولوجية طالبًا المساعدة في إرسال طردٍ هامٍ إلى موسكو، تحديدًا إلى "أكاديمية العلوم".
قصد كريفوشي بعدها حمّام المنطقة ثم مصفف الشعر، وابتاع بذلة مكلفةً وبعض القمصان الملونة وغياراتٍ داخلية. بشعره الخفيف المرتّب بعناية ذهب وقدّم نفسه لأعلى السلطات الأكاديمية في المنطقة، مبتسمًا بودٍّ جارف.
استقبلته السلطات بإحسانٍ وترحيب، درايته ومعرفته الفريدة باللغات الأجنبية التي استعرضها برشاقة تركت الأثر المطلوب. رأت السلطات الأكاديمية في كريفوشي قوّة معرفية وثقافية لطالما احتاجتها في ياكوتسك، وألحّوا عليه راجين منه البقاء أطول مدّة ممكنة. عندما ردّ كريفوشي على طلبهم بأنّ عليه أن يشدّ الرحال إلى موسكو سريعًا، وعدوه بتحضير كافة ترتيبات سفره، وعلى نفقة الدولة. مع احتفاظه بكرامته شكرهم بهدوء، لكنّ تلك السطات كانت لها خططها الخاصة لكريفوشي.
لم يكن باستطاعة أيّ محققٍ طرح سؤال أكثر دهاءً من هذا: "بالطبع لن ترفض طلبنا أيها الزميل العزيز، سنسرّ جدًا بإعطائك محاضرتين أو ثلاثة لخبرائنا، يمكنك اختيار أيّ موضوع تفضّل بالطبع، أو عن احتياطيّ المنطقة من الفحم ربمّا، ما رأيك؟".
سؤال الهيئة العلمية هذا أشعر كريفوشي بالغثيان وانقبض صدره، فما كان منه إلا أن قبل طلبهم مرحّبًا بالفكرة، إلا أنه قيّدها بعدم استطاعته الإفصاح عن كلّ ما يعرفه "دون موافقة مسبقةٍ من موسكو".
أتى لاحقًا موعد المحاضرة وجذبت زوارًا كثرًا، ابتسم كريفوشي واقتبس شكسبير بالإنجليزية، ثم رسم بعض الأشياء على اللوح وذكر عشرات الأسماء الأجنبية.
أحد الحاضرين، مالَ برأسه إلى بروفيسورٍ بجانبه وقال: "هؤلاء الموسكويون لا يعرفون الكثير، كلّ ما هو جيولوجيّ في هذه المحاضرة هو بمستوى طالب إعداديّ. وماذا عن التحليل الكيمائي للفحم؟ ما علاقة ذلك بالجيولوجيا!". زجره البروفيسور، ثمّ أفصح عن رغبته بسؤال كريفوشي لأن يكرر محاضرته ذاتها، للطلّاب هذه المرة. وبالفعل، أعاد كريفوشي بحماسة محاضرته ولاقت تقبّلًا واسعًا وحبورًا بين الطلاب.
ذكر كريفوشي أن أكثر ما أثار اندهاشه، أنه وخلال ثلاثة أشهرٍ من السفر والتنقّل، لم يُسأل ولا مرّة واحدةً عن أوراقه الثبوتية في أيّ مكان خطته قدماه؛ لا في الهيئات العلمية المرموقة ولا حتى في مجالس القرى. "كنت أملك أوراقًا ثبوتية بالطبع، لكنني لم أحتج إبرازها في أيّ مكان".
بعد سنتين تمامًا، وفي يوم ذكرى "رحلة جهاده"، قُبض على كريفوشي وحُكمَ عليه بعشر سنواتٍ إضافية على حكمه الأول، واُرسل إلى كوليما لينفّذ عقوبته هناك.
أين كان الخطأ الفادح الذي ارتكبه وأدّى إلى خنق هذا العمل البطولي الذي قام به؟ هذه المأثرة التي تطلّبت مستوياتٍ قصوى من ضبط النفس والكثير الكثير من العبقرية والبراعة وقوة التحمّل الجسدية، وكلّ صفات النفس البشرية تباعًا؟!
لقد خُطِّطَ لهذا الهروب بحذر وعناية فائقين، وبأفكارٍ مذهلة وحساباتٍ نفسية عالية الدقّة. ومن المدهش أنه لم يشارك أيّ أحدٍ آخر في التخطيط له، وهذا ما كان السبب الرئيسيّ لنجاحه.
هروب كريفوشي كان مميزًا لأن رجلًا واحدًا فقط استطاع الإيقاع بدولةٍ كاملة مع آلاف مسلّحيها وكلابها، وفي منطقة مأهولةٍ باُناسٍ اعتادوا أخذ 10 كيلواتٍ من الطحين مقابل كلّ هاربٍ يسلّمونه إلى السلطات. صحيح أن الرجل كان مرغمًا –وهو محقّ في ذلك- على اعتبار كلّ من رآه مخبرًا أو جبانًا، إلا أنه حارب ببسالة، ودخل معركته، وانتصر.
وبعودةٍ إلى السؤال، ما الخطأ الذي دمّر تلك المهمة التي حققها كريفوشي بتألق؟
كانت زوجة كريفوشي محتجزةً في الشمال وممنوعةً من السفر إلى المدينة، الأوراق التي تحتاجها للتنقّل كان عليها إصدارها من ذات الهيئة المسؤولة عن قضية هرب زوجها. لكنّ هذا كلّه كان متوقعاً بشكل مسبق، لقد استقرّت لتنتظر فقط، والأشهر بدأت تجرّ بعضها تباعًا.
حاولتْ أنجيلينا مغادرة كوليما من جانبها الآخر بالطائرة فوق ذات الطرق التي سلكها زوجها سيرًا على الأقدام قبل أشهر، لكن هذه المحاولة أيضًا صُدت بحائط الرفض. وجدت أنجيلينا نفسها حبيسة سجنٍ صخريّ ضخم يشكّل ثمن حجم الاتحاد السوفييتيّ، ولم تجد مخرجًا أبدًا.
بدأت نقود أنجيلينا بالنفاد؛ الحياة في الشمال مكلفة جدًا، تفاحة واحدة تساوي مئة روبيّة. المبلغ الذي كانت تتقاضاه من وظيفتها كان شحيحًا مقارنةً بما تقاضاه من استُقطِبوا من المدينة للعمل. لطالما ردد زوجها على مسامعها: "الحروب ينتصر بها من يملك قوة تحملٍ أكبر". وخلال ليالي الأرق القطبيّة، كانت أنجلينا تردّد تلك الكلمات لنفسها، كلمات جنرالٍ ألمانيّ.
بدأت تشعر بانهيار أعصابها، أرهقها صمت الطبيعة الأبيض، وحائط اللاإنسانية الصلد أتعبها، والهموم والأسئلة الثقيلة عن مصير زوجها أخذت تأكل روحها. هل مات من الجوع والبرد؟ هل قُتل؟ ربّما، لكن بالنسبة إليها، فقد رأت في اهتمام ومتابعة السلطات الدائمين لها منفذ راحة وطمأنينة، كان ذلك يعني أن زوجها ما يزال حيًا طليقًا، وأنّ معاناتها لم تذهب هدرًا.
الثقل الذي حملته في قلبها جعلها تبحث عن شخصٍ ما يساعدها، لكنها كانت تشعر بأن كل من تراه قد يكون مخبرًا للسلطات أو جاسوسًا مترصدًا. شعورها هذا لم يكن وهمًا، لأنّ السلطات استدعت كلّ من يعرفها في قرى كوليما وتجمّعاتها السكنية، وجميعهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر إفصاحها عمّا في قلبها.
كانت أنجيلينا معدمة الحال وغارقةً في اليأس مع نهاية سنتها الثانية من العزلة الإجبارية، كل ما عرفته هو أنّ زوجها حيّ، وفي محاولة منها للموصول إليه قامت بإرسال رسائل لكلّ المدن الكبرى، تحمل اسم بافيل ميخائيلوفتش كريفوشي.
وصلها الردّ، على شكل حوالة مالية. وبعد ذلك أصبح يصلها مبلغ من المال من أماكن مختلفة وأسماء عديدة. كريفوشي كان أذكى من أن يرسل المال من مركز المدينة، والسلطات كانت تعرف ذلك بالطبع.
وعلى غرار خرائط العمليّات الحربية، ثُبِّتت أعلام على الأماكن التي أُرسل منها المال، ووجدت السلطات أن جميعها كانت قريبةً من محطة قطار، واستُخدمت مرة واحدةً فقط. كل ما كان عليهم فعله الآن هو بذل جهدٍ إضافي في البحث عن أسماء المقيمين حديثًا في مركز المدينة خلال العامين الماضيين، وأن يقارنوا الصور بها. هكذا قُبض على كريفوشي.
سُمحَ لزوجته المخلصة الشجاعة، التي أعطته عندما كان في أركاغالا وثائق رسمية وأكثر من خمسين ألف روبية نقدًا، بالمغادرة فور إلقاء القبض عليه، وغادرت كوليما على متن أول سفينة وجدتها.
نفّذ كريفوشي حكمه الثاني كمديرٍ للمخبر الكيميائيّ في مشفى السجناء المركزي. حظي ببعض المميزات من الإدارة واستمرّ –كما في السابق- باحتقار السياسيين والحذر منهم، وكان متنبّهًا دائمًا لهويّة من يكلّمه، وحساسًا وجبانًا عندما يتكلّم الآخرون.
هذا الجبن والحذر ليس كجبن المواطن العاديّ، كان أساسه مختلفًا. وبالنسبة لكريفوشي، كلّ ما يتعلّق بالسياسة لا أهمية له على الإطلاق، كان يعلم أن هذا النوع من "الإجرام" هو ما يقضي على حياة الناس في المعسكرات، وكان رافضًا التضحية بالسلام الفكريّ الذي يعني له كثيرًا.
عمل كريفوشي وعاش في المختبر وليس في عنابر السجناء، كان ذلك ممكنًا لمن يحظى بامتيازاتٍ منهم. العديد من النساء –غير السجينات- رغبن بالتقرّب منه وإقامة علاقة معه، لكنّ كريفوشي السجين كان نبيهًا وقويّ الإرادة، ولم يقم بأي فعلٍ يمكن أن يهدد وضعه الحاليّ، أراد هدوءًا وسلامًا فقط.
أُطلِق سراح كريفوشي بعد سنوات قليلة بمساعدة بدل أيام عمله في المختبر، ومُنع من مغادرة كوليما نهائيًا. لم يزعجه ذلك على الإطلاق، وفي اليوم التالي لإطلاق سراحه اتّضح امتلاكه بذلةً فخمةً ومعطفًا يبدو وكأنه فُصّلَ له من وراء البحار، وقُبّعةً أنيقة.
وجد المهندس الكيميائي عملًا يلائم مؤهلاته في أحد مصانع توليد الطاقة، كاختصاصيّ في "الضغط العالي"، وبعد أسبوع فقط تقدّم بطلب مغادرةٍ "لأسباب عائلية".
بابتسامة هادئة، قال كريفوشي: "أنا ذاهب للبحث عن امرأة، امرأة! فأنا أنوي الزواج".
- وماذا عن أنجيلينا؟
- لم أعد على اتصالٍ معها.
لم يكن من المجدي التحقق من صحّة ذلك، فقد كان كريفوشي قادرًا دائمًا على الردّ بقول المعسكر السحريّ: إذا لم تصدقّني، اعتبرها قصّة خيالية!
اقرأ/ي أيضًا: