حين يتجول السائر في مدينة فاس تختلط فيه المشاعر، ويصبح لا يرى في أزقتها الضيقة إلا أطيافًا من المجهول، حيث يصبح عنصر المفاجأة حاضرًا في كل حين، لأن الزائر لا يتوقع ما سيراه ما إن يمر من زقاق إلى آخر. وأنا الذي أمضيت عمري كله في فاس، ينتابني إحساس الغرابة كلما ولجت المدينة القديمة، لأكتشف كل الأمكنة التي لم يتح لي بعد أن أزورها، أتتبع الماضي وأخطو خطو الأجداد. وتتخذ أفكاري مسار الأزقة وأشكالها، فتارة تضيق، وتارة أخرى تنفتح على الفضاء الواسع للمجردات.
كان توثيق الحسن الوزاني للحياة في فاس دليل على الطابع المخيالي الذي توحيه لزائرها
لا شك أن فاس مهد الروحانيات والعلم والثقافة في المغرب العربي. فما أن يجد الزائر الرابط بين المعمار والعامل البشري، حتى تتضح له الرؤية الكامنة في العلاقة الحميمية بين الفضاء والمكان وسيكولوجيا أهل فاس. إن جدلية "الاختناق" و"الانفتاح" التي تتيحها فاس كتجربة "سيكو-هندسية" كلما زارها الغريب، تخلق إحساسًا من الدهشة الأرسطية، حيث يلعب العنصر البشري من خلال العادات اليومية والتموقع الذي يتخذه البشر في فضاء يضيق ويتسع في آن واحد، بالمعنى السيكولوجي للفضاء، دورًا مهمًا في خلق ثقافة والوضعيات السيكولوجية المتطرفة.
اقرأ/ ي أيضًا: سرد الحكايا عن وهران "الباهية"
إن التعايش مع هذه الجدلية السيكولوجية الحاضرة في كل نواحي الحياة في الثقافة الفاسية، سيحيل عبر تاريخ المدينة على أشكال فلكلورية وثقافية غرائبية. ولقد أسهب الحسن الوزان الفاسي "ليون الأفريقي" في وصفه لمدينة فاس ونواحيها وطباع أهلها في كتابه الشهير "وصف أفريقيا"، حيث كان توثيقه للحياة في مملكة فاس آنذاك خير دليل على الطابع المخيالي الذي توحيه فاس لزائرها في القرن العاشر، حيث كانت الحياة الروحية في فاس تتمظهر في أشكال عديدة في الحياة اليومية، قد تخالف الشرع أحيانًا، وأيضًا تصل بحدود الفضاء العمومي إلى أقصى المشاهد التي تتحدى الثقافة السائدة آنذاك من سحر وشعوذة وفنتازيا وتحرر جنسي تحت طائلة الروح والخلاص.
ليس الغرض من هذا المقال أيضًا الإسهاب في مسألة الخاص والعام في الثقافة الفاسية، بل اقتراح فرضية الربط بين المعمار والفضاء السيكولوجي للفرد والجماعة، إذ نعتقد أن عامل الانغلاق المكاني للمدينة على ذاتها، وأيضًا رقعة التعايش التي يوجد فيها فرد مع نفسه ومع الآخرين في علاقة قرب كبيرة، يخلق أشكالًا وطبائع ينظر إليها على أنها "غريبة".
كيف يمكن للفرد في معمار ذي بعد متناقض في ذاته، أن ينفتح على الآخرين وينزوي في فضائه الخاص؟
إذ يبقى السؤال مفتوحًا: كيف يمكن للفرد في معمار ذي بعد متناقض في ذاته، أن ينفتح على الآخرين وينزوي في فضائه الخاص؟ إن الديناميكية الحية التي تفرضها هذه الجدلية كان لابد لها أن تتصرف في أشكال "حالية" و"روحانية" متحررة تقترب إلى حد ما إلى الجنون والهرطقة.
اقرأ/ ي أيضًا: عمارة بيتنا العتيق
إن فهمنا الجزئي لعامل العمران وتأثيره على السيكولوجيا، باتخاذ فاس نموذجًا، كمحاولة لفهم الحاضر عن طريق عمل حفري سريع لتاريخ المدينة، ساعدنا على فهم، ولو بسطحية، جزء من تركيبة الفرد السيكولوجية. يمكن القول إن هندسة المدينة من خلال فضاءاتها الخانقة، والفسحة وأيضًا، وعامل الإضاءة الذي لم نتطرق له، تساهم بشكل كبير في هندسة الجانب الطبائعي في الفرد في تعامله مع ذاته ومع الآخر. إذ تتخذ أشكال الغيرية والخروج من الذات مفهومًا متطرف في طرقه التعبيرية، ففي مثال فاس عبر التاريخ قد وجدنا أن الهندسة الزمكانية وطابعها السيميولوجي، قد أودت بأنماط وجود تمتد من أشكال القداسة، مرورًا بالتصوف والتضرع والتفقه، وصولًا إلى الجنون والخروج عن المعتاد.
اقرأ/ ي أيضًا: